Page 175 - m
P. 175

‫الملف الثقـافي ‪1 7 3‬‬

 ‫وتمسكهم بالعقل‪ ،‬وجرأتهم‬        ‫وجو ًدا مستق ًّل قائ ًما بنفسه‬               ‫ومناهضته(‪.)20‬‬
    ‫في الطرح‪ ،‬فيتساءل‪ :‬لماذا‬     ‫فإن بينها اتصا ًل ليس فيه‬      ‫ويقول طه حسين عن أرسطو‬
                                 ‫من شك‪ ،‬وأن ك ًّل منها إنما‬
 ‫تحدى سقراط الموت وتحدى‬        ‫هو منتج أو نتيجة لغيره‪ ،‬فلا‬        ‫إنه كان قليل الحظ ج ًّدا من‬
 ‫معه الاثنتين؟ ووقف موقفه‬      ‫بد حينئذ من البحث عن هذه‬             ‫الخيال‪ ،‬وأن هذا هو الذي‬
                                 ‫الصلة التي تجمع بين هذه‬           ‫باعد ما بينه وبين أستاذه‬
    ‫ذاك الرائع الذي يصوره‬      ‫الأشياء المختلفة وتكون منها‬          ‫أفلاطون‪ ،‬ويري أي ًضا أن‬
   ‫لنا أفلاطون أبرع تصوير‬       ‫ك ًّل متح ًدا قوي الوحدة(‪.)23‬‬       ‫أرسطو طاليس يمثل هذه‬
‫وأجمله‪ ،‬ولماذا ذهب أفلاطون‬        ‫وبذل أرسطو أكثر ما بذل‬
‫في أبواب الفلسفة هذه المذاهب‬    ‫من الجهد في تشييد فلسفته‬              ‫الأمة التي جعلت العقل‬
                                                                 ‫اليوناني عق ًل عا ًّما ورسمت‬
      ‫التي ألقت فيها الفلسفة‬       ‫النظرية‪ ،‬ولكن أكثر هذه‬
  ‫بالشعر الذي بلغ أقصي ما‬         ‫الفلسفة قد مات الآن‪ ،‬ولم‬            ‫للإنسانية سبيلها التي‬
‫يمكن من الجمال؟ ولماذا أمعن‬     ‫يبق منه إلا نظريات معدودة‬              ‫ستسلكها إلى الرق(‪.)21‬‬
  ‫أرسطو في فلسفته الخصبة‬                                           ‫لعل أرسطو أراد أن تكون‬
   ‫المفضلة التي عاشت عليها‬            ‫فيما بعد الطبيعة(‪.)24‬‬        ‫فلسفته صورة صادقة‪ ،‬أو‬
   ‫الإنسانية العاقلة والتي لم‬     ‫على أن نظرية من نظريات‬          ‫قل واقعية لهذا العالم الذي‬
  ‫تفرغ بعد من الانتفاع بها؟‬       ‫أرسطو تستحق ‪-‬عند طه‬              ‫تدرسه وتبحث عنه‪ ،‬وهذه‬
   ‫ولماذا سار أبو العلاء هذه‬     ‫حسين‪ -‬أن يعني بها؛ لأن‬             ‫فكرة ليس من شك في أن‬
  ‫السيرة التي لم يسبقه إليها‬                                    ‫أرسطو طاليس مبتكرها‪ ،‬وفي‬
  ‫أحد من المسلمين ونظم هذا‬          ‫البحث عنها بل اتخاذها‬       ‫أنها قد كانت ولا تزال مطمع‬
  ‫الشعر الذي لم يشاركه فيه‬            ‫مذهبًا قد استؤنف في‬            ‫كثير من الفلاسفة الذين‬
                                                                 ‫يفرضون أن لهذا العالم على‬
       ‫شاعر وفيلسوف؟(‪)27‬‬       ‫العصر الحديث‪ ،‬هذه النظرية‬            ‫اختلاف ما فيه من صور‬
‫وهكذا اهتم طه حسين بالفكر‬         ‫هي قول أرسطو طاليس‪:‬‬                ‫وحدة يجب على الفلسفة‬
                                     ‫إن الأسرة هي الوحدة‬            ‫أن تحققها وتمثلها تمثي ًل‬
   ‫اليوناني‪ ،‬واتخذ منه ومن‬          ‫الاجتماعية؛ أي أنها هي‬
     ‫التيارات الفكرية الغربية‬                                                  ‫صحي ًحا(‪.)22‬‬
   ‫آراء‪ ،‬ومن المناهج أساليب‪،‬‬     ‫الذرة التي لا تقبل القسمة‪،‬‬           ‫ويفرق طه حسين بين‬
    ‫ليصوغ منه ًجا خا ًّصا به‪،‬‬  ‫والتي تكون مع ذرات أخرى‬              ‫أفلاطون وأرسطو‪ ،‬فيري‬
    ‫وفك ًرا ملائ ًما لشخصيته‪،‬‬    ‫تشبهها الجسم الاجتماعي‪،‬‬             ‫أن أرسطو لم يضع ح ًّدا‬
  ‫ورأي أن مصادرنا الثقافية‬     ‫فالأسرة تنمو نموها الطبيعي‬        ‫بين الشيء ومثاله‪ ،‬ولم يقل‬
   ‫نحن والغرب واحدة‪ ،‬وهي‬         ‫فتكون القرية‪ ،‬وهذه القرية‬         ‫بأن لل ُمثل وجو ًدا مستق ًّل‬
    ‫الأعمال اليونانية من فكر‬                                      ‫منفص ًل عن وجود صورها‬
   ‫وأدب وعلوم‪ .‬هكذا اختزل‬        ‫بانضمامها إلى قرى أخرى‬            ‫الخارجية‪ ،‬ولم يستطع أن‬
      ‫طه حسين كل المؤثرات‬          ‫تكون المدينة أو الدولة أو‬         ‫ي ْؤثر هذه المُثل ويتخذها‬
  ‫التي أثرت في الفكر العربي‬                                          ‫وحدها موضو ًعا لبحثه‪،‬‬
  ‫وقصرها علي اليونان‪ ،‬وبما‬           ‫الجماعة السياسية(‪.)25‬‬       ‫وإنما اتخذ الأشياء من حيث‬
  ‫أن الغرب ربط بين حاضره‬          ‫ولأرسطو الفضل كما يقر‬              ‫هي أشياء موضوع لهذا‬
  ‫وماضيه‪ ،‬ذلك الماضي الذي‬                                            ‫البحث‪ ،‬فأثبت بمقدار ما‬
   ‫تمثله حياة اليونان‪ ،‬فليس‬        ‫الجميع في معرفة العرب‬         ‫كانت تسمح له ظروف العلم‬
     ‫أمامنا نحن إلا تمثل تلك‬    ‫لبعض الآراء اليونانية لأنها‬       ‫والفلسفة في ذلك الوقت أن‬
     ‫الحياة أي ًضا على أن هذا‬   ‫نقلت إليهم بواسطة مؤلفاته‬        ‫هذه الأشياء مع أن لكل منها‬
   ‫يعد دعوه إلى توحيد العقل‬    ‫عن طريق ترجمتها وشرحها‬

                                              ‫فيما بعد(‪.)26‬‬
                                    ‫ويتعجب طه حسين من‬
                                  ‫فلاسفة اليونان وأفكارهم‬
   170   171   172   173   174   175   176   177   178   179   180