Page 36 - m
P. 36

‫العـدد ‪59‬‬   ‫‪34‬‬

                                                       ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬

‫إن الشاعر المعاصر يغني «مك ِّر ًسا هذا الغناء لإعادة‬   ‫يبق للشاعر إلا الشعر الذي هو الرحلة التي يسافر‬
  ‫بكارة حقل الإنسان‪ ،‬كما إن غناءه يصدح بصدى‬             ‫عبرها إلى الحزن الانساني‪« :‬لقد أصبح الشعر هو‬
       ‫مؤثر‪ ،‬وهو ليس إلا اس ًما آخر للإنسان»(‪.)9‬‬
   ‫كما أن مسؤولية الشعر الحقيقي هي أن يغوص‬                ‫الغزو الأكثر أهمية في عصر الآلة‪ ،‬والرهان الذي‬
 ‫في جوهرنا‪ ،‬لأن كلمة جوهر ليس لها اسم آخر إلا‬          ‫يتسم بصفة ما فوق الكمال الذي سار فيه الإنسان‬

‫اسم الإنسان‪ ،‬فالشعر المعاصر «يناضل مع النماذج‬               ‫على القمر‪ ،‬لذا أصبح الفضاء الداخلي المسكون‬
  ‫المختلفة لمذهب العلم ومذهب التوجيه الاقتصادي‬         ‫بالهموم هو فضاء الكلمات التي لا يمكن إلا أن تحل‬
  ‫والاجتماعي‪ ،‬أو التوفيق والمصالحة بين مجموعة‬
  ‫الأفكار والوظائف والعقائد والنظريات التي تدين‬                                       ‫محل الإنسان»(‪.)4‬‬
     ‫العصور والمجتمعات»(‪ .)10‬وقد بدأ هذا النضال‬          ‫إن الشعر المعاصر ليس إلا تأم ًل تبحث فيه روح‬
 ‫مع القصيدة والوصية الشجاعة للشاعر الفرنسي‬
     ‫‪ Villon‬التي عنوانها (يا إخوة الإنسانية يا من‬            ‫الشاعر عن لغة جوهرية‪ ،‬وهو بعث للإنسان‬
    ‫ستعيشون بعدنا)‪ ،‬وقد رمت نفسها في العصر‬             ‫الأصيل الذي يظل مرتب ًطا بجوهره النقي‪ .‬في أيامنا‬
     ‫الحديث في ابتهالات قصيدة ‪«( Baudelaire‬يا‬
                            ‫نضيري يا أخي)(‪.)11‬‬              ‫هذه أصبحت الكلمة برؤية ‪Roland Barthes‬‬
     ‫لقد ارتبط الشعر المعاصر؛ ليس فقط بمشاكل‬                  ‫موضو ًعا جدي ًدا‪ ،‬ووحدة للعمل وللحياة»(‪.)5‬‬

‫الإنسان المتعلقة بالحياة والحب والموت‪ ،‬بل بالقوى‬         ‫وتجليات وتعبي ًرا عن «ميتافيزيقية الذات سجينة‬
 ‫النارية المدمرة‪ ،‬كما ارتبط بليل الأسرار والاختناق‬                         ‫الصوت الخافت للإنسان»(‪.)6‬‬

   ‫النفسي للإنسان‪ ،‬من هنا تجلت فاعليته فأصبح‬               ‫كذلك يرى ‪ Jean Claude Pinson‬أن عصرنا‬
   ‫محل ًل نفسيًّا يقدم لنا علا ًجا للمشاكل الروحية‪،‬‬      ‫هو «عصر الضيق الشديد‪ ،‬عصر الشدائد والمحن‬
    ‫ويبتلع ألمنا ووساوسنا‪ ،‬فهو يخترق اللا مرئي‪.‬‬
   ‫يحاول الشعراء المعاصرون أن يجدوا في الشعر‬                  ‫العظيمة‪ ،‬إذ إن العقلية الميتافيزيقية أخضعت‬
‫طريقة لفهم العالم‪ ،‬فأصبحوا يبحثون عن نماذج لا‬              ‫كل شيء إلى سطوة الحساب والتقنيات‪ ،‬ومعها‬
  ‫ينفصل فيها الشعر والعلم أحدهما عن الآخر‪ .‬إن‬             ‫أصبح الإنسان المعاصر في محنة الاغتراب حتى‬
  ‫الشعراء المحدثون والمعاصرون يسمحون للقارئ‬              ‫عن وطنه‪ ،‬إن الرباعي الأجزاء هو وطنه الحقيقي‪،‬‬
                                                        ‫وهو وطن خلفي‪ ،‬مختف ومشوه إلى حد التلاشي‪.‬‬
      ‫بخوض تجربة تقودهم إلى إدراك أهم سمات‬                 ‫بالنسبة للشاعر لم يعد هذا الزمن إلا لي ًل يخيم‬
   ‫الشعر المعاصر التي حددها ‪،Fredricch Hugo‬‬
  ‫وهي أن سحره اللفظي وغموضه يخلقان شعو ًرا‬                   ‫على العالم‪ ،‬حيث إن كل أثر للحرمة قد أصبح‬
 ‫بالافتتان عند القارئ‪ ،‬لدرجة أن فهمه يكون بعي ًدا‬      ‫ممح ًّوا‪ ،‬وإن نزعة الإنسان وميوله هي أي ًضا مهددة‬
   ‫عن الإمساك بالفكرة الرئيسة التي يريد الشاعر‬          ‫بالموت‪ ،‬فالشاعر الحقيقي هو الذي يدور شعره في‬
   ‫إيصالها‪ ،‬هناك حيث تنفصل مسارات الزمن عن‬
 ‫الفضاء المكاني‪ ،‬كما تنفصل العناصر الملموسة عن‬           ‫محور الاستفهامات التي تصب في ‘شكاليات هذا‬
 ‫عناصر الروح‪ ،‬هذه الرؤية تتجنب الفروق السلبية‬                                               ‫العصر»(‪.)7‬‬
    ‫باعتبارها ضارة‪ ،‬لكنها تبرز تص ُّو ًرا نهائيًّا عن‬
‫عالمنا الهمجي‪ ،‬فيتجلى التناقض بين القبح والجمال‪،‬‬           ‫يؤكد ‪ Jean Claude Pinson‬أن «استفهامات‬
 ‫بين القريب والبعيد‪ ،‬بين الظل والضوء‪ ،‬بين الفرح‬             ‫الشاعر المعاصر ليست إلا استفهامات شعرية‬
   ‫والألم‪ ،‬وبين الأرض والسماء‪ .‬من سماتها أي ًضا‬          ‫تبحث عن جوهر هذا البؤس‪ ،‬الذي أصبح البحث‬
   ‫القلق‪ ،‬التفكك‪ ،‬الفوضى‪ ،‬تشويه جميع العناصر‪،‬‬                ‫عن سره قضية يصبو فيها الشاعر إلى إعادة‬
 ‫غلبة المتفرد‪ ،‬الاستثنائي‪ ،‬العتمات‪ ،‬موجات الخيال‪،‬‬        ‫حضور الإنسان الذي أصبح في غياهب النسيان‪،‬‬
                                                         ‫ويصبو أي ًضا إلى أن يجعل صدى لهيبة الإنسان‪،‬‬
                                                           ‫وأن يعيد صرح المسكن القديم وأن يدشنه»(‪.)8‬‬
                                                           ‫فالشاعر المعاصر إذن هو شاعر القصيدة التي‬
                                                         ‫تبحث عن حياة إنسانية بمعناها الحقيقي‪ ،‬كما أن‬
                                                        ‫نداءاته هي المحرك الداخلي الذي يلامس مشاعرنا‪،‬‬
                                                           ‫ذلك أنه يعكس مزي ًجا من العلاقات التي تتسم‬

                                                                      ‫بالحب الذي يسطع بضياء السلام‪.‬‬
   31   32   33   34   35   36   37   38   39   40   41