Page 34 - m
P. 34
العـدد 59 32
نوفمبر ٢٠٢3
ذاكرة أخرى هاربة. رمزية «الملائكية» و»الوعل»
ولا يتم استعادة هذه الذاكرة دفعة واحدة ،بل عبر
طقوس ابتعاث العاشق التي تتماثل زمانيًّا ودلاليًّا بين هذا كله يستند النص على دلالتين محوريتين،
مع حركة الفصول الأربعة ،وتعاقب أيام الأسبوع يسبحان في أجوائه ،ويمنحانه حيوية ومذا ًقا
السبعة .فالوعل يحاول العودة إلى النقطة البيضاء،
أو يوتوبيا الولادة الأولى ،والعاشق يحاول العبور خا ًّصا .تكمن الدلالة الأولي في رمزية (الملائكية).
فلكل يوم ملاك وخدم وأعوان« ..وقال :أنا خدم
إلى هذه اليوتوبيا من هذه النقطة نفسها ،وعبر
الإيحاء بولادات أسطورية تتقاطع خيوطها ،وتتكرر الأربعاء واسمي «يرقان» .وقالت أين ملاكك
ميكائيل» و»قال :أنا خادم الخميس ،واسمي
على مدار كل يوم. «شمهورش» .قالت :وأين شهدائيل» ..وغيرها.
أي ًضا اللافت هنا ،أنه رغم إيهام النص دراميًّا اللافت أن النص لا يركز على المعنى البدائي التي
وتشكيليًّا ،بأن ثمة فواصل زمنية ،بين كل يوم توحي به دلالة هذه الرمزية ،مثل هواجس الطيران،
وآخر ،إلا أننا نحس بأن ثمة دورة زمنية واحدة، أو رغبة التحليق في الفضاء للانعتاق من أسر
من الممكن أن تتكرر إلى ما لا نهاية .تصل هذه الأسطورة؛ وإنما يسحبها إلى أفق دلالي مغاير،
الدورة إلى ذروتها في اليوم الأخير من النص، وذلك بتخليص هذه الرمزية من شبهة المحاكاة
حيث يصبح العاشق قرينًا للمطلق الذي تنهض للأسطورة الأصلية ،وتحويلها إلى أداة لتسطيح
عليه الأسطورة الأويزرية نفسها ،ويعرج إلى الأفق أفق الأسطورة الميتافيزيقي الأعلى ،بالتزامن مع
تخليص الأنا الفاعلة ،أو البطلة المتجسدة في رمز
الأعلى. العاشق ،من سيماء هذا الأفق الأعلى ،وإضفاء شكل
إن النص بهذا الخلوص يبدأ من حيث انتهى. الواقع وإيقاعه المتواتر على جوهر الأسطورة نفسه،
ويذكرنا هذا بفكرة العود الأبدي النيتشوية،
حيث لا تجد الذات خلاصها من عبثية الواقع والكائنات والأشياء أي ًضا.
وضغوطه إلا بالعودة إلى الرحم الأم ،والذي وعلى مستوى الرؤية ،يتعامل النص مع هذه
تجسده الأسطورة .فهناك يمكن أن يقابل العاشق الرمزية على مستويين متقاطعين ومتجاورين .فهي
أقرانه ونظراءه ،من أصحاب المعرفة اللدنية: تتجسد كحد ٍس أرض ًّي وغطا ٍء خارج ٍّي للأسطورة.
الخضر ،الحلاج ،ابن عربي ،البسطامي ،ال َّسهر كما أنها من ناحية أخرى ،تحفظ للأسطورة
وردي ..وغيرهم .وكأنه ليس ثمة مقدرة للحب صورتها البدائية المطلقة ،وتجردها من شرط
على الصمود في مواجهة الواقع الحي ،بل ليس ثمة الوجود الإنساني بطابعه الأرضي الواقعي المباشر.
طريق للخلاص إلا بذوبان الذات وفنائها ،في جسد وتتسع دائرة التضاد والتناقض في النص ،حتى
أسطورة خرافية ،تختلط معايير صدقها بكذبها. تصبح -أحيا ًنا -هذه الرمزية مراد ًفا للأنوثة.
حينئذ يبدو من العبث -أي ًضا -أن نسائل النص تتماثل هذه الرمزية مع «رمزية الوعل» بقرونه
عن الأسطورة الجديدة التي استولدها ،من كل هذا المدببة المجنحة المضيئة ،ودلالته الذكورية الواضحة
«كنت وع ًل وشجرتي على رأسي ،تثمر ك َّل ما
الروافد المتشعبة. أشتهي وأنام في ظلها الظليل» .وبرغم ما يؤشر
في الختام ..يبقى أن أحيي هذه المغامرة ،بما تحمله رمز الشجرة على الذاكرة الضائعة المستعادة ،إلا
من خبرة شعرية طازجة وحية ،قادرة على تجديد أن النص يوحد بين نهوض وقيام العاشق ،وبين
دمائها وإثارة الدهشة والأسئلة الحقيقية ،ليس فقط محاولة استعادة الوعل ذاكرته الخاصة .وعلى مدار
النص يتبادل العاشق قناع الوعل ،متقم ًصا خطاه
حول الشعر ،وإنما -أسا ًسا -حول الإنسان في وماهيته ،فكأننا أمام ذاكرتين مشتتين ،تبحثان عن
أعماق وجوده وأساطيره التي لا تنتهي