Page 70 - m
P. 70

‫العـدد ‪59‬‬   ‫‪68‬‬

                                                     ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬

                     ‫الشرقية للقناة بعد الثغرة)‪.‬‬          ‫الرجل السرير‪ ،‬سأل الطبيب إن كان يريد أن‬
   ‫تربعت على الأرض‪ ،‬وحفظت قدمي في حجرها‬                 ‫يحدثه عن حياة سرور أم عن مماته‪ ..‬لم يسمع‬
   ‫لتنزع «البيادة» الثقيلة‪ ..‬انطلقت مني عف ًوا «آه»‬    ‫ر ًّدا‪ ،‬فعقب (محفوظ) وقرر وحده أن يحدثه عما‬
 ‫حادة‪ ،‬سريعة‪ .‬رمقتني متسائلة‪ ،‬وأنا ألتقطها من‬
‫أعلى‪ ،‬وهي متكورة داخل غلالتها الشفافة اللامعة‬             ‫حدث بينه وبين زوجته عندما أخبرها حكاية‬
                                                                             ‫استشهاد «سرور» عف ًوا!‬
     ‫وقد التصقت بجسدها البض‪ .‬سمعت صو ًتا‬
                      ‫ملائكيًّا يقول‪( :‬سلامتك!)‬       ‫كانت روحي معلقة بتفاصيل سردتها على مسامع‬
                                                       ‫زوجتي ليلة عودتي من الجبهة لأول مرة‪ ،‬فبدت‬
 ‫لم تكن البسمة التي ارتسمت على سحنتي تخص‬               ‫وكأنها أذنان كبيرتان تتحركان في اتجاه شفتي‪.‬‬
‫الحقيقة التي أرجو أن أخفيها‪ .‬كانت بسمة مرتبكة‬           ‫كنت أقص عن زملاء الكتيبة ونحن نعبر القناة‪،‬‬

  ‫هزيلة‪ ،‬من جراء ألم غبي بمفصل ْي القدمين‪ ،‬بعد‬                        ‫ونسعى لاعتلاء الساتر الترابي‪.‬‬
                                                       ‫ثم بدت زوجتي أقل اهتماما‪ ،‬رأيتها تكور جدائل‬

                                                         ‫شعرها المبللة بالمياه الدافئة‪ .‬بين الفينة والفينة‬
                                                          ‫ترمى أطراف شعرها الطويل ناحيتي في آلية‬

                                                       ‫وسكينة لم تفعلها من قبل‪ ،‬لم تتمهل‪ ،‬فضلت أن‬
                                                      ‫تقتحمني بملابسها الداخلية الوردية الشفافة‪ ،‬ولا‬

                                                         ‫أدري لماذا فضلت أن يبقى جسدها مبل ًل؟ وقد‬
                                                       ‫حذرتها فيما مضى من البقاء طوي ًل مع جسدها‬

                                                                                  ‫وحدهما في الحمام‪.‬‬
                                                      ‫تعمدت التحدث إليها بافتخار عما أنجزته كتيبتي‪،‬‬

                                                          ‫وقد نجحنا في رشق العلم المصري فوق أعلى‬
                                                          ‫قمة الساتر الترابي‪ .‬ولم أشر إلى ميتة زميلنا‬
                                                      ‫العسكري «سرور»‪ ،‬ولا إلى ساق «سالم المسلمى»‬
                                                     ‫التي بترت‪ ،‬ولا حتى إلى الملازم «رفعت» الذي فقد‬
                                                      ‫بصره‪ .‬لم أذكر شيئًا منها البتة‪ ،‬فقد يتعكر صفو‬
                                                       ‫لقاء انتظرناه سو ًّيا أكثر من ثلاثة شهور كاملة‪..‬‬

                                                                           ‫منذ العبور الناجح للكتيبة‪.‬‬
                                                     ‫فلما هممت برفع الخوذة الحديدية من فوق رأسي‪،‬‬
                                                     ‫تذكرت أنني لم أنزعها‪ ،‬طوال تلك الشهور‪ ..‬كما لم‬

                                                       ‫أبرح الآن جلستي فوق طرف السرير‪ ،‬ولا أدري‬
                                                                               ‫كم من الوقت انقضى‪.‬‬

                                                       ‫قد يبدو الأمر مستغر ًبا لمن يراني وأنا انهرها أن‬
                                                       ‫تعيد الخوذة إلى رأسي‪ ..‬من كان معي أو شارك‬
                                                        ‫في جعجعة المعارك سوف يعذرني‪ ،‬وربما يهون‬

                                                          ‫من غضبة زوجتي التي أخفتها عنوة! حاولت‬
                                                     ‫اقناعها وقلت‪( :‬الخوذة هي سترى وسر اطمئناني‪.‬‬

                                                       ‫كنت أضعها تحت رأسي لأنام‪ ،‬وأحفظ فيها بولي‬
                                                       ‫لأشربه أثناء فترة الحصار‪ ،‬وأخبئ تحتها بعض‬

                                                           ‫كسرات الخبز الجافة لحين القحط‪ ،‬وقد سد‬
                                                         ‫الأعداء طرق الإمداد والتموين إلينا على الضفة‬
   65   66   67   68   69   70   71   72   73   74   75