Page 71 - m
P. 71

‫‪69‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫القصة‬

 ‫بصره‪ .‬كانت إصابتي أهون‪ ،‬بدليل أنني استطعت‬            ‫قفزة مهرولة خاطئة وأنا أعتلي القارب المطاطي‬
‫أن أرفع رأسي من فوق الرمال لأسب جد أجداده‪،‬‬          ‫في بداية العبور‪ ،‬حتى كدت أغوص في أعماق مياه‬
                                                    ‫القناة‪ .‬لولا أن بعضهم تصرف بحكمة أكثر منى‪..‬‬
                       ‫وأمه التي ولدته معتو ًها!)‬  ‫بقيت قدمي تؤلمني‪ .‬تصرفت وبسرعة هونت عليها‬
   ‫انشغلت الزوجة في مهمتها الخاصة ج ًّدا‪ ،‬حكت‬
                                                       ‫الأمر‪ ،‬تمتمت بكلمات أعنيها وقد لا تفهمها إلا‬
      ‫كل جسدي وأنا منتصب وسط الغرفة‪ ،‬فوق‬                            ‫زوجتي في هذا العالم‪ ،‬فضحكنا!‬
 ‫الطست الفارغ‪ .‬يبدو أن أم ًرا ما شغلها‪ ،‬فلم تعلق‪،‬‬
 ‫حتى بعد أن تابعت بأن «سرور» لم يكن يقصدنا‬          ‫لم تربط الخلفة بيننا بولد أو ببنت‪ ،‬وإن حرضتنا‬
 ‫أكيد‪ ،‬لكنها الحرب القادرة على فعل كل شيء غير‬        ‫على اندغام جسدينا أكثر‪ ،‬ولطالما ساعدتنا الأيام‬
                                                      ‫والليالي‪ ..‬إلا أيام الحرب‪ .‬بدت واثقة من نفسها‬
     ‫متوقع! وجدتها تلوى رقبتها إلى أعلى‪ ،‬تابع ُت‪:‬‬
 ‫(أصاب سرور الذهول ونال منه الصمت‪ ،‬المدهش‬                ‫ومني وهي تنهض بخفة من جلستها‪ ،‬تتعلق‬
                                                           ‫برقبتي وبشفت َّي‪ .‬ثم فضلت أن تنزع عنى‬
     ‫هو ما حدث بعد ذلك‪ ،‬العسكري «سرور» ابن‬
  ‫الشياطين غافلنا وتجاهل سبابي‪ ،‬ثم اندفع قبلنا‬        ‫ملابسي العسكرية‪ ،‬علها تزيح عن أنفها رائحة‬
                                                        ‫العرق التي أظنها أقرب إلى رائحة البول‪ .‬طال‬
    ‫جمي ًعا نحو فتحة مزغل حصن الأعداء‪ ،‬موج ًها‬     ‫انتظارها لأن أجيب على سؤالها‪ ،‬أعلنت أنها ستنفذ‬
   ‫لسان اللهب إلى ذاك الرابض خلف المزغل‪ ،‬حتى‬       ‫وحدها المهمة‪ ،‬بدت وكأنها تريد أن يسمعها جيران‬
   ‫أسكته وحتى تقدمنا كلنا من خلفه‪ ،‬ونحن نهلل‬           ‫سكان الشارع‪ ،‬نهرتها أن تخفض من صوتها‪.‬‬
   ‫ونكبر وقد تجاوزنا جثته المدرجة بالدماء‪ ..‬جثة‬       ‫فارتسمت علامات الدهشة ولم تنطق‪ ،‬ولم يطل‬
                                                   ‫انتظاري‪ ،‬عادت وبين ذراعيها وعاء من البلاستيك‬
         ‫«سرور» المثقوبة بعشرات الرصاصات!)‬           ‫والصابونة المغلفة بورقها الأزرق اللامع مع تلك‬
 ‫لم تكن المحنكة في فنون الحب‪ ،‬راغبة في المزيد عن‬
                                                              ‫المنشفة الجديدة وقطعة اللوف الطويلة!‬
   ‫حديث الحرب‪ .‬ليست مصادفة أن تركتني دون‬              ‫لم تترك موض ًعا من جسدي العاري إلا دعكته‪،‬‬
  ‫أن تجفف المياه الرائقة عن جسدي‪ ،‬ولا أن تترك‬      ‫هرسته بقوة‪ .‬توقفت فجأة مستفسرة عن سر تلك‬
                                                   ‫البقعة السوداء التي لا تعرفها من قبل في جسدي‪،‬‬
    ‫لمبات نجفة الحجرة مضاءة على غير عادتها في‬           ‫قلت‪( :‬كنا قد نجحنا في اعتلاء الساتر الترابي‬
   ‫الحب معي‪ .‬هالها ما عبرت عنه بالدهشة‪ ،‬لأنني‬      ‫دون أية خسائر تذكر سوى مفاصل القدمين‪ ،‬لكن‬
    ‫فقدت بريق شعر صدري الذي ينافس صدور‬               ‫شظية طائشة مكتوب عليها اسمي‪ ..‬أصابتني في‬
‫ممثلي السينما‪ .‬كما أدهشها شكل المساحات القاتمة‬
 ‫بسبب حروق اللهب‪ ،‬حتى رسوم الوشم الأخضر‬                                                    ‫كتفي!)‬
                                                       ‫ثم تابعت بعد برهة‪ ،‬وأنا أضرب على صدري‪:‬‬
                 ‫بتعويذة الحسد بهتت! فسألتني‪:‬‬
            ‫(ماذا فعل «سرور» فيك يا محفوظ؟!)‬                       ‫(لكنني الآن تمام ومثل الحصان)‬
 ‫لم أعقب‪ ،‬اكتفيت بمتابعتها تدور من حولي‪ ،‬طلبت‬                   ‫يبدو أن المزاح لم يعجبها‪ ،‬لم تبتسم!‬
  ‫منها أن تتحدث بلطف أكثر مما تفعل عن الشهيد‬         ‫أسرع ُت وشرح ُت لها كيف أنني نسيت ألمي فور‬
‫«سرور»‪ ،‬فلوت شفتيها‪ .‬وصلتني معا ٍن لكلمات لم‬           ‫أن هبطنا جمي ًعا على الجانب الآخر من الساتر‬
                                                     ‫الترابي؟ وكيف كانت أجساد زملاء الكتيبة كلها‬
               ‫تنطق بها‪ ،‬لم أعهدها فيها من قبل!‬    ‫ونسه لروحي‪ ،‬تحفزني على متابعة المهمة لاقتحام‬
  ‫أدرت وجهي عنها‪ ،‬التحفت بالظلمة‪ ،‬ضغطت على‬
   ‫زرار الإنارة‪ ،‬رشقت رأسي بين الوسادتين‪ ،‬ثم‬                              ‫الدشمة الحصينة للعدو؟!‬
 ‫عاهدت نفسي مستقب ًل ألا أمارس الحب معها إلا‬          ‫تابعت بسرعة‪( :‬بينما كنا على حال اندفاعنا‪ ،‬إذا‬
                                                      ‫بالعسكري «سرور» حامل مدفع «طالق اللهب»‬
                                      ‫في الظلمة!‬    ‫يصوبه عف ًوا نحوى وإلى الضابط رفعت بجواري‪،‬‬

                                                         ‫فاحترقت في جزء من جسدي‪ ،‬وفقد الضابط‬
   66   67   68   69   70   71   72   73   74   75   76