Page 127 - merit 47
P. 127

‫نون النسوة ‪1 2 5‬‬                                    ‫الصغيرة على الشمال‪ ،‬فترى عمتها واقفة بفستانها‬
                                                        ‫الأبيض‪ ،‬كما رأتها آخر مرة‪ ،‬تبتسم لها وتلوح‬
    ‫التي «كانت ترسم دوائر متداخلة على طرف أي‬
    ‫ورقة تقع تحت يديها‪ ،‬متاهة لا نهائية ترسمها‬        ‫مودعة»‪ ،‬حيث يحضر هذا الطيف بقوة‪ ،‬ويعكسه‬
 ‫يدها بلا شعور»‪ ،‬مما يعكس مدى ما عانته من تيه‬        ‫دال المرآة‪ ،‬بكل ما يقدمه إلينا من معاني الانعكاس‬
‫واضطراب‪ ،‬وبعدها ابنة أخيها‪ ،‬لكن الرواية لم تغفل‬
 ‫صوت النساء الأخريات في العائلة‪ ،‬سواء أمها التي‬         ‫والتشابه والتطابق ومواجهة الذات واكتشافها‪،‬‬
 ‫عانت مع أبيها المصاب في الحرب‪ ،‬وتحملها الزواج‬          ‫والطيف ليس واح ًدا‪ ،‬بل أطياف كثيرة تظهر في‬
     ‫من رجل يمشي بقدم خشبية‪ ،‬ثم زوجة أخيها‬
‫(نادية) التي أحبته وهو لم يبادلها الحب‪ ،‬لكنه وافق‬         ‫سياقات مختلفة؛ في سياق الزواج‪ ،‬والتعليم‪،‬‬
‫على الزواج منها إرضاء لأبيه أي ًضا‪ ،‬ولكونها زوجة‬      ‫وفي سياق الشغف وحب الفن‪ ،‬والارتباط بمدينة‬
                                                    ‫القاهرة بكل ما تتيحه للمسافر إليها من آفاق رحبة‬
                                        ‫مناسبة‪.‬‬
     ‫وتتعلق مسألة الوحدة في النص بكونها ع َر ًضا‬         ‫ومربكة في الوقت ذاته‪ ،‬وما تتيحه من صخب‬
                                                                          ‫يعيدنا إلى مواجهة أنفسنا‪.‬‬
       ‫لشعور أكبر وهو الاغتراب‪ ،‬أو شعور بعدم‬
     ‫الانتماء‪ ،‬سواء في عدم انتماء كاميليا لعدد من‬                    ‫(‪)5‬‬
    ‫التقاليد الصارمة التي فرضتها أسرتها‪ ،‬أو عدم‬
‫انتمائها لوظيفة التدريس المفروضة أي ًضا عليها‪ ،‬ثم‬      ‫وبالعودة إلى حديث الوحدة وارتباطه بشكل ما‬
‫عدم انتمائها لزوج لا تحبه‪ ،‬وفي النهاية عالم لم تجد‬     ‫بمشروع نورا ناجي‪ ،‬وكذلك تماسه مع مصائر‬
 ‫انتماءها فيه إلا في شغفها بالفن والكتابة‪ ،‬ومظاهر‬
     ‫عدم الانتماء تمتد أي ًضا إلى باقي الشخصيات‪،‬‬          ‫شخصياتها‪ ،‬نجد أن هذه الشخصيات تتلقى‬
    ‫الجميع لا ينتمي لمحيطه‪ ،‬إما لاقترانه بطرف لا‬      ‫المصير ذاته من الاغتراب والعزلة والوحدة‪ ،‬بد ًءا‬
   ‫يحبه أو لا يقبله‪ ،‬أو لاقترانه بعمل لا يرضاه‪ ،‬أو‬     ‫من كاميليا التي شعرت بعدم الانتماء على طول‬
   ‫حتى لاقترانه بمجتمع يقيده أو يحبسه في زاوية‬        ‫حياتها فتقول‪« :‬أشعر مرة أخرى بالانفصال عن‬

                         ‫دائمة للدفاع عن النفس‪.‬‬          ‫كل ما حولي‪ ،‬اللانتماء إلى الزمان والمكان»‪ ،‬ثم‬
     ‫وكما وصفت الكاتبة الوحدة من قبل في كتابها‬      ‫الأب وعلاقته بالأم التي لا تعكس ملم ًحا كبي ًرا من‬
                                                      ‫ملامح الترابط الحقيقي‪ ،‬وصو ًل إلى كل العلاقات‬
        ‫(الكاتبات والوحدة) بأنها «مجرد صفة‪ ،‬لا‬
   ‫يمكنك أن تراها بعينك المجردة‪ ،‬لا يمكن أن تقف‬         ‫في الرواية بعد ذلك‪ ،‬من كاميليا الصغيرة وكل‬
   ‫وسط جمع من الناس لتقول‪ :‬أنا أشعر بالوحدة‪،‬‬        ‫الرجال الذين ارتبطت بهم‪ ،‬و(جمال) الزوج البائس‬
                                                    ‫الذي ازدادت وحدته بعد زواجه من العمة وتفاقمت‬
     ‫لكنك ستشعر بهذا الألم الذي يشق صدرك في‬         ‫بعد غيابها أو اختفائها‪ ،‬وصو ًل إلى الأخ الذي عانى‬
      ‫كل لحظة»‪ ،‬فانعاكسها داخل النص ‪-‬كما بدا‬
    ‫لي‪ -‬يش ِّكل ملم ًحا لقراءة جانب كبير من مأساة‬     ‫في حياته الزوجية وانعكس هذا على أسرته وعدم‬
‫الشخصيات كما عرضتها الرواية‪ ،‬ومأساة المرأة في‬         ‫تفهمه لطبيعة شخصية كاميليا الصغيرة‪ ،‬ولم ير‬
‫مجتمعاتنا العربية التي تعكس عدم انتمائها بأشكال‬        ‫فيها إلا الشبه بينها وبين عمتها‪ ،‬ما كان يصيبه‬
                                                      ‫بالذعر من احتمالية أن تلقى ابنته المصير نفسه‪،‬‬
                      ‫شتى وفي سياقات مختلفة‪.‬‬         ‫ويفسر مدى خوفه عليها‪ ،‬في محاولة لإعادة إنتاج‬

                 ‫(‪)6‬‬                                                         ‫ما صنعه أبوه من قبل‪.‬‬
                                                     ‫هذا التيه الذي أصاب العائلة بكامل أفرادها يفسر‬
  ‫«تصرخ‪ :‬أنا حرة»‪ ،‬تمثل الكلمات السابقة مرتك ًزا‬      ‫لنا جانبًا من جوانب الأزمة‪ ،‬وبيا ًنا لسبب إصابة‬
 ‫أساسيًّا في بناء الرواية‪ ،‬حيث التوق إلى التحرر من‬     ‫الجميع بحالة من الاغتراب أو الوحدة‪ ،‬أثرها بدا‬
‫قيد العائلة وصرامتها وغياب الحوار‪ ،‬وقيد المجتمع‬
                                                          ‫واض ًحا وقو ًّيا على النساء والرجال م ًعا‪ ،‬وإن‬
    ‫وما يفرضه من تصورات ُتحد من حرية المرأة‪،‬‬            ‫حرصت الرواية على تسليط الضوء بشكل أكبر‬
                                                    ‫على معاناة المرأة‪ ،‬بأن جعلت بؤرة الأحداث كاميليا‬
   122   123   124   125   126   127   128   129   130   131   132