Page 112 - merit 45
P. 112

‫العـدد ‪45‬‬                          ‫‪110‬‬

                                                              ‫سبتمبر ‪٢٠٢2‬‬

‫أنور عمران‬

‫(سورية)‬

‫بطاقة إقامة‬
‫(مونودراما)‬

                         ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬                 ‫المسرح معتم تما ًما‪ ..‬تنفتح الإضاءة روي ًدا‬
   ‫حاولت مر ًة واحد ًة أن أتذوقه‪ ،‬أن أتذوق هذا الماء‬        ‫روي ًدا‪ ..‬يظهر رجل يجلس وراء الطاولة‪ ،‬أمامه‬
    ‫الذي يغطيني من رأسي حتى قدمي‪ ،‬لكن طعمه‬                  ‫أوراق يكتب عليها بواسطة قلم في يده‪ ،‬يرتدي‬
                                                             ‫قنا ًعا يظهره بملامح حيادية تما ًما (يبقى على‬
      ‫كان مال ًحا ج ًّدا‪ ،‬أحسس ُت حين دخل جوفي أن‬
    ‫ُسلالا ٍت من الأسماك جالت في جوفي‪ .‬أو‪ ..‬قد لا‬             ‫وضعيته هذه طوال المسرحية دون أن ينطق‬
    ‫تصدق ما سأقوله لك‪ ،‬لقد أحسست بطعم اللغة‪،‬‬                  ‫أو ينظر إلى أي شيء غير الأوراق‪ ،‬ومن دون‬
   ‫نعم بطعم اللغة! أسماء الغرقى الذين أعرفهم؟ أو‬              ‫أن يلتفت مجرد التفاتة إلى الرجل الآخر الذي‬
‫الذين يشبهون أهلي‪ ،‬أسماؤهم كلها دخلت إلى جوفي‪،‬‬                 ‫يتحدث)‪ .‬تتحرك الإضاءة حيث نستطيع أن‬
 ‫ابتلعت كل الأحرف بصعوبة بالغة‪ ،‬كان الأمر أشبه‬                 ‫نشاهد أمام الطاولة وعا ًء كبي ًرا ج ًّدا مملو ًءا‬
 ‫بمن يبتلع السكاكين‪ ،‬لكن حر ًفا واح ًدا ما زال عال ًقا‬      ‫بالماء يجلس وسطه رجل بثياب ممزقة ومبتلة‬
‫في حلقي‪ ،‬لا أستطيع أن أبلعه ولا أستطيع أن ألفظه‪..‬‬
‫حرف ياااااا الذي نادى به جميع من غرقوا من دون‬                           ‫ويرتدي فوق قميصه سترة نجاة‪.‬‬
   ‫أن يلتفت إليهم أحد‪ ،‬صحي ٌح أنني لم أغرق معهم‪،‬‬                                   ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬

                ‫ولكنني أي ًضا لم أن ُج‪ .‬انظ ْر‪ ..‬انظ ْر‪.‬‬       ‫هل ح ًّقا وصل ُت اليابسة يا سيدي‪ ،‬هل أنا الآن‬
   ‫يخبط بيديه الماء بطريقة متسارعة ثم يتوقف‬                   ‫بمأمن من أسنان الحيتان وبرودة الأمواج‪ ،‬وإذا‬
                                                          ‫كان الأمر كذلك فلماذا أشعر بأنني أطفو‪ ،‬لماذا أشتم‬
          ‫فجأ ًة ويبدأ الضحك بطريقة هيسترية‪.‬‬                 ‫رائحة الطحالب‪ ،‬هل سترافقني هذه الرائحة طيلة‬
                         ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬           ‫حياتي‪ ،‬ولماذا يجتاح الملح دمي حتى تتزاحم الدموع‬

     ‫أتعرف؟ لو رآني أحد أبناء قريتي الآن بالتأكيد‬                                            ‫تحت جلدي؟‬
  ‫سيتهمني بالجنون‪ ،‬لأنني أحاول أن أهرب من هذا‬             ‫يكافح الرجل الجالس في الماء محاو ًل الخروج من‬

   ‫الماء‪ ،‬حين كنا هناك‪ ،‬وعندما كنا نعيش في بيوتنا‬                      ‫الوعاء‪ ،‬ينال التعب منه دون فائدة‪.‬‬
‫الطينية بالقرب من حقولنا‪ ،‬قبل أن تبدأ الحرب‪ ،‬كان‬                                   ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬
‫العطش أي ًضا يقتلنا ويقتل أشجارنا‪ ،‬صلواتنا لم تكن‬
                                                               ‫سيدي! سيدي! إني أشعر بعطش شديد‪ ،‬حلقي‬
  ‫تنقطع من أجل قدوم الغيم‪ ،‬شمسنا كانت حارقة‪،‬‬              ‫يتكسر كالنايات الجافة التي هجرها المغ ُّنون‪ ،‬كل هذا‬
     ‫ومع ذلك كنا نقف ي ًدا بيد كالس ِّد في وجه الفقر‬       ‫الماء الذي حولي‪ ،‬وما ٌء آخ ُر أحمله في قلبي ومع ذلك‬

  ‫ووجه الجوع‪ ،‬وكنا نح ُّب أي ًضا‪ ،‬هل تعرف ليلى يا‬           ‫يقتلني العطش‪ ..‬قدري أن أحمل السفن على ظهري‬
 ‫سيدي؟ ليلى التي سرقتها مني ومن أمها الطائرات‪،‬‬              ‫بد ًل من أن تحملني على ظهرها‪ ،‬وأن أُلازم القيعان‬

                       ‫نعم كنا نحب وكنا نرقص‪.‬‬                     ‫كما يتلازم الإخوة‪ ،‬وقدري أن أنتظر الريح‪.‬‬
 ‫يخرج من الماء كالمُ َن َّوم‪ ،‬ينبعث في المسرح صوت‬            ‫«يتابع حديثه وهو يلهث ويضرب الماء بيديه‬
                                                            ‫متاب ًعا محاولاته البائسة في الخروج من الماء»‬
   ‫موسيقا تراثية راقصة‪ ،‬ينهمك بالرقص‪ ،‬فجأ ًة‬
   107   108   109   110   111   112   113   114   115   116   117