Page 107 - merit 45
P. 107

‫‪105‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫قصــة‬

                    ‫وأصوات الرعد آذانهم؛ فلم يسمعوا توسلاته‪ .‬ذهب‬
                      ‫الجندي بلهفة إلى قبر زوجته‪ ،‬ولك أن تصدق أنه‬
                       ‫منذ ذلك الحين‪ ،‬إلى وقتنا هذا لم يفرغ من سرد‬
                      ‫حكايات الحرب‪ ،‬التي لا تنضب؛ ما إن ينتهي من‬
                     ‫سرد حكاية‪ ،‬حتى يدفعه الحماس إلى رواية حكاية‬
                     ‫أخرى‪ ،‬بينما تصغي زوجته في قبرها إليه‪ ،‬وتأنس‬
                        ‫به‪ ،‬لكنها ‪-‬بطبيعة الحال‪ -‬لا تنطق ببنت شفه‪،‬‬
                              ‫وتلوذ بصمتها العميق‪ ،‬مثلما تفعل أنت‪.‬‬

                    ‫منذ قرابة الشهر‪ ،‬وبينما أنا أطوف بأنحاء الأرض‪،‬‬
                         ‫اقتربت من منطقة‪ ،‬شطرتها الأسلاك الشائكة‬

                       ‫إلى نصفين‪ ،‬عرفت بعد ذلك أنها منطقة حدودية‪،‬‬
                         ‫وعرفت أن أولئك الشعث الغبر ذوي الأسمال‬
                         ‫البالية‪ ،‬ما هم إلا لاجئون أجبرتهم الحرب على‬

                     ‫ترك ديارهم‪ ،‬والنزوح بعي ًدا‪ ،‬حتى قادتهم أقدامهم‬
                       ‫المنهكة إلى تلك المنطقة الوعرة؛ فاعترض طريقهم‬

                    ‫حراس متجهمون‪ ،‬مدججون بالأسلحة‪ .‬كانت ندف‬
                     ‫الثلج تتساقط دونما توقف فوق رؤوس الفريقين‪،‬‬

                           ‫لا تفرق بين حارس‪ ،‬ولاجئ‪ ،‬وكان الأطفال‬
                           ‫يتضورون جو ًعا‪ ،‬وكانوا يرفعون أصواتهم‬
                        ‫بالبكاء‪ ،‬وكانت الأمهات يقفن عاجزات‪ ،‬في حين‬
                        ‫طأطأ الرجال رؤوسهم‪ ،‬وبدوا كتماثيل جامدة‪،‬‬
                    ‫يكبلها العجز؛ فما كان مني إلا أن تحولت على الفور‬
                          ‫إلى أرغفة خبز ساخنة‪ ،‬التهمها الأطفال بنهم‪.‬‬
                        ‫هل تسمعني جي ًدا؟! لقد صرت رو ًحا بارعة في‬
                        ‫التشكل والتحول؛ فامتلكت وحدي ذلك السجل‬
                        ‫المضيء‪ ،‬الذي يشعرني بشيء من الرضا‪ ،‬وما‬
                      ‫كان ذلك ليحدث لولا تحرري من أغلال صاحبي‪،‬‬

                                            ‫ومفارقتي قمقمه الضيق‪.‬‬

                                     ‫(‪)٣‬‬

                              ‫أ ما زلت تحدق في تلك الصفحة البيضاء‬
                            ‫الفارغة بعينين مشبعتين بالملح؟! أ لا يزال‬

                              ‫جسدك المحنط صام ًدا يأبى التحلل؛ أم ًل‬
                              ‫في عودتي إليه مرة أخرى؟! قد آن لي أن‬

                                   ‫أغادر حديقتك الساكنة‪ ،‬وأن أذوب‬
                                      ‫تما ًما في الرحاب الشاسعة‪ ،‬وقد‬
                                      ‫آن لك أن تذروك الرياح كحفنة‬
                                                       ‫تراب بائسة‪.‬‬
   102   103   104   105   106   107   108   109   110   111   112