Page 33 - merit 46 oct 2022
P. 33

‫لعل حضور ثنائية‪ :‬الفقر ‪ #‬الغنى‬             ‫تسطرها يد المؤلف»(‪.)27‬‬

       ‫الناتجة عن استفحال رأس المال‪،‬‬                     ‫لا يقد ُم‪ ،‬بوصفه مكا ًنا‬  ‫فهذا الحي‬
                                                   ‫موقع جغرافي محدد ومساحة‬         ‫مستق ًّل ذا‬
    ‫وتسلطه واستحواذه على السياسي‪،‬‬
                                                   ‫وعناصر معينة‪ ،‬وإنما يتم ذلك من خلال‬
             ‫وانصراف هذا الأخير (الوريث‬
                                                   ‫انتقاء أماكن وأشياء تنتظم في سياق‬
  ‫السياسي) عن العناية بشؤون الناس‬                  ‫القص لتكون منه مجتمع ًة مكا ًنا روائيًّا‬
                                                   ‫ذا موقع في البناء الروائي «فعندما يتم‬
  ‫العاديين‪ ،‬تطل ًبا للمظهرية والمباهاة‬
      ‫فقط (الجد العزام ‪ #‬رياض العزام)‪،‬‬             ‫الانتقال من فضاء الحي الشعبي إلى‬

      ‫يختزل عمق القضية المطروحة في‬                 ‫فضاء الحي الراقي سيتغير معه نظام‬

    ‫الرواية‪ ،‬فمن رحم هذه الثنائية تبرز‬             ‫القيم وبرنامج الممارسة الاجتماعية‬

        ‫إشكالية التطرف والعنف‪ ،‬ورفض‬                ‫لصالح نظام جديد ينتج قي ًما جديد ًة‬
                                                               ‫وممارسة جديدة»(‪.)28‬‬
             ‫الآخر‪ ،‬والتعصب والعدوانية!‬
                                                   ‫تقدم الرواية‪ ،‬منذ بدايتها‪ ،‬مشهد حي‬
       ‫أرجلهم فرحين في البرك الصغيرة الوسخة‪،‬‬
      ‫تتمهل‪ ،‬وهي تسلكه‪ ،‬إلى جانب كومة العظام‪،‬‬      ‫الأميركان‪ ،‬في وقتنا الحاضر‪ ،‬بعد أن‬
      ‫يطن حولها الذباب‪ ،‬تناديها الكثرة الصباحية‬
  ‫وأصحاب البسطات‪ ،‬مزارعون تفوح منهم روائح‬          ‫طاله التحول‪ ،‬وقسا عليه الزمن‪ .‬وإذا‬
    ‫الأرض الرطبة‪ ،‬مسيحيات سافرات من أخوات‬
    ‫الرجال يكاسرن في الأسعار‪ ،‬موظفون يدورون‬        ‫توقفنا عند الملفوظات الوصفية المتكررة‬
  ‫لمجرد التنزه في تلك الأحياء الضيقة‪ ،‬يدخلون أحد‬
    ‫الجوامع المملوكية الصغيرة‪ ،‬عربات اليد يجرها‬    ‫في أكثر من صيغة وشكل في الرواية‪،‬‬
‫غرباء فقراء يدللون على الخضر الشتوية‪ ،‬يتكدسون‬
       ‫في غرف صغيرة‪ ،‬يجرون الأحمال كالدواب‪،‬‬        ‫فإننا سننتقي صفتي‪ :‬الضيق والتداعي‪،‬‬
   ‫الأرصفة الضيقة‪ ،‬رصيف تسده نفايات منزلية‪،‬‬
 ‫رائحة البوريك الطالعة من المصبنة‪ ،‬رائحة السمك‪،‬‬    ‫بوصفهما صفتين تسمان غير موضع‬
    ‫ماسحو الأحذية ينظرون أحذية المارة‪ ،‬يرفعون‬
   ‫أصوات الأغاني الشائعة إلى السماء‪ ،‬يتضاربون‬      ‫من مواضع هذا الحي الطرابلسي العتيق‪.‬‬

                       ‫بقسوة لتأمين عملهم»(‪.)29‬‬    ‫ففي الحي‪ :‬المدرسة الإنجيلية المهجورة‪ ،‬مبانيها‬
    ‫إضافة إلى ضيقه وقدمه‪ ،‬نجد الحي الشعبي قد‬
   ‫اتسم بإنسانه‪ ،‬فهو بات آه ًل بالفقراء يكتظ بهم‪،‬‬  ‫المتهالكة‪ ،‬يطل الحي على نهر المدينة‪ ،‬حيث لا حيلة‬
   ‫فيضطر المشنوق وبلال محسن إلى تقاسم منزل‬
                                                   ‫للساكنين للوصول إلى بيوتهم سوى ارتقاء الأدراج‬

                                                   ‫العديدة التي ترسم في الحارة أخاديد تشبه سواقي‬

                                                   ‫الماء‪ ،‬يتعاون السكان على نقل الأثاث والمرضى‬

                                                   ‫صعو ًدا‪ ،‬يسكن المشنوق في بيت من الحجر الرملي‬
                                                   ‫هجرته منذ نصف قرن عائلة من تجار سوق‬

                                                   ‫القمح المتوسطي الحال‪ ،‬يحتفظ المبنى ببقايا وردة‬

                                                   ‫منحوتة‪ ،‬بقطع تطريز حجري متساقطة هناك على‬

                                                   ‫طول كورنيش السطح‪ ،‬تفاصيل غارقة في بؤس‬
                                                   ‫حالِه الراهنة‪ ،‬اضطر المشنوق من ضيق الحال إلى‬

                                                   ‫الاكتفاء بالغرفتين الأرضيتين والفسحة‪ ،‬يشاركه‬

                                                   ‫في الإيجار والسكن بلال محسن وأفراد عائلته‪.‬‬

                                                   ‫أما الطريق إليه فتكاثرت فيها بسطات العتائق في‬

                                                   ‫سوق الجمعة‪ ،‬يجتاحه فقراء الجبال‪ ،‬وعبره ترسل‬

                                                   ‫إنتصار الصبي الثاني إلى ورشة تصليح السيارات‪،‬‬

                                                   ‫يأكله الشحم والزيت ويخشن مع رفاق السوء‪،‬‬

                                                   ‫مياه العاصفة تجرف نفايات الأحياء العليا‪ ،‬تبعثرها‬

                                                   ‫في أرجاء حي الأميركان بالتساوي‪ ،‬تلاميذ يخبطون‬
   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38