Page 34 - merit 46 oct 2022
P. 34
العـدد 46 32
أكتوبر ٢٠٢2
لي ًل ،في أنحائه ،بات مسكو ًنا بروائح المازوت، سكن واحد يصل الدرج الداخلي بين طابقيهما «قرر
والبساتين اجتثت لتحل محلها الأبنية المتكاثرة، -المشنوق -تثبيت التلفاز على الدرجة الثالثة من
السلم الداخلي ،على أمل ألا يركله أحد أولاد بلال
والتلوث آفة بلادنا ،قد وصل إليه.
محسن وهم يهرولون نزو ًل»( ،)30وإنتصار تضيق
تحول المدينة وهي سائرة :بالباعة نسا ًء ورجا ًل وبالسائحين
في أنحاء المكان ،وهم يبحثون عن رائحة التاريخ
ينسحب الأمر عينه على المدينة بأسرها ،يزور
رياض عبد الكريم ،في منزله ،بعد عودته من غربته في ذاك الحي الضيق ،وبالفقراء يتكومون في غرف
الباريسية ،يريد الاطمئنان إلى أن ابن عمه لا مطامع صغيرة منه .هكذا تبرز ضمن فضاء الحي الشعبي
سياسية لديه ،فيعلن في سياق حديثه عن هذا التحول
المزعج بالنسبة إليه ،فمدينته صارت «ميتة ،تستيقظ صفات أساسية ،تؤثر على القاطنين فيه وهي:
الضيق +القدم +الاكتظاظ +القذارة ،تبدو هذه
متأخرة ،وتتحول إلى مدينة أشباح بعد الثامنة الصفات كما لو كانت صفة واحدة لها عدة إشارات
لي ًل»( ،)32وقد خضعت لسلطة المال السياسي خلال
دلالية.
مدة الانتخابات« :يشتري الأغنياء أصوات أهلها بذلك ينهض الحي الشعبي في هذه الرواية بوصفه
في الانتخابات ،أغنياء تحوم الشبهات حول طريقة
مكا ًنا انتقاليًّا من المقام الأول ،بوظيفة أساسية
تجميعهم الثروات». في السرد الروائي ،فانطلا ًقا من وصفه يتأسس
أما على الصعيد الاجتماعي :فصالات السينما قد القول الحكائي ويبرز ،من دون ما عداه ،عنص ًرا
أقفلت أبوابها ،ومن يريد السهر لي ًل عليه الانتقال ضرور ًّيا لفهم المادة الحكائية فيها ،فنفهم ،في ضوء
إلى إحدى البلدات المسيحية ،ومحال الملابس الأنيقة هذا التحول الذي لحق كل ما فيه ،التحول الذي
هاجرت ،ومدارس الإرساليات أقفلت ،وتضاءل عدد سيطرأ على إنسانه ،لا سيما إنسان الجيل الجديد
المسيحيين ،وقد «سيطر المتطرفون على المساجد، الذي سيتربى في أنحائه ،وهذا هو حال شخصية
وطردوا منها الخطباء الذين يحجمون عن الدعوة إلى
الجهاد كيفما اتفق ،ينقبون نساءهم بالأسود يكفرون إسماعيل.
ويحرمون»(.)33 تحول الحي الراقي
هكذا يصبح المكان /المرجع موحيًا بالدلالة ،سواء في
هذا التبدل ،الذي عرفه الحي الشعبي ،يتمدد إلى
الحيين /المتعارضين أم في المدينة جمي ًعا ،فالتحول حيها الراقي (حي آل العزام) .فبعد عودة عبد
واح ٌد في الكل ،إنه التردي ،وإن اختلفت مشهديته،
وتبدلت عناصره ،وهذا التحول يفضي إلى حدوث الكريم من باريس ،يحاول الوقوف خارج منزله،
عساه يتحقق مما تركه هناك من ذكريات الروائح
المواجهة /العاصفة.
يفيد المكان الروائي في حالته هذه أن ليس من مفر الجميلة التي كانت تنسرب إلى أنفه ساب ًقا من
من الصراع ،طالما أن ليس من دائرة اتصال بين الفئة البساتين ،فلا يفلح.
الحاكمة وبين السلطة ،وبين فئة الشعب من نحو
أول ،والوطن من نحو ثا ٍن .لقد جسدت زمكانية هذه يبدو مشهده ،وهو واقف لي ًل أمام منزل والديه في
الرواية صراع الشخصيات مع الذات ،أو مع الآخر، الخارج ،مثي ًرا لتهكم من قد يراه «أطال الوقوف
سواء كان هذا الآخر فر ًدا أم جماعة ،أم دولة ،أم في الخارج .بدا منظره مضح ًكا ،واق ًفا ثابتًا يرفع
عالمًا بأسره ،وبدت فكرة المدينة /صورتها مشروطة،
بكيفية تشكيل هذا الصراع ودلالاته ،ما يقود إلى أنفه إلى الأعلى فلا يصله من الروائح المبعثرة سوى
مازوت السيارات العمومية العابرة ،ومن الأصوات
استقراء تحولات الزمن في الرواية ،حيث يتبلور
التقابل المفجع /المحفز الحقيقي ،على فعل القول. غير هدير مولد الكهرباء في البناية المجاورة ،وإذا
أنصت جي ًدا يسمع صوت زيز لي ٍل من بقايا بساتين
الليمون لا يزال تائ ًها وسط الأبنية المتكاثرة»(.)31
فالحي الراقي الذي كان يعبق برائحة الزهر تفوح