Page 11 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 11
إبداع ومبدعون 9 ومع هذه الجدليّة بين التخييلي والواقعي ،إلا أن
رؤى نقدية كثي ًرا من الق ّراء والنقاد [م ًعا] تساءلوا ِمن أين يأتي
الروائيون بأبطالهم؟! السؤال لا يعني بأية حال من
القاتل الم ُـلْ ِهم الأحوال سلب المؤلفين نعمة الخيال ،بل على العكس
تما ًما ،السؤال يحمل معنًى مضم ًرا ،يحيل إلى الصنعة
المثال الأبرز عالميًّا ،لهذه الظاهرة هو رواية «الإخوة والفن ،ومن ثم التأكيد على قيمة الفن التي هي وسيلة
كارامازوف» ( )1880لدوستويفسكي (-1821 الكاتب لنقل الواقع بتشويهه على نحو ما ذكر بيير
ماشيري «إ ّن أثر الفن يك ُمن أسا ًسا في تشويه الواقع
،)1881التي وص َفها سيغموند فرويد بأ ّنها« :أروع
رواية ُكتِب ْت على الإطلاق» ،ثمة إشارتان لأصل لا محاكاته».
الحكاية :الأولى ،رواها دوستويفسكي نفسه في لم ينكر الروائيون لجوءهم إلى قصص [أو حوادث
«ذكريات منزل الأموات» ،والثانية في مقدمة المترجم وحكايات] من الواقع كمعين [أو ُمحفز] لهم
للطبعة الإنجليزية حيث يقول «تتصل الجذور الأولى على الكتابة ،فاعترف الكثير منهم في مذكراتهم
وحواراتهم وشهاداتهم بأصول أعمالهم أو الأصل
للإخوة كارامازوف بماضي دوستويفسكي؛ فقد السلالي الذي ترجع إليه هذه الأعمال .وذكر الكثير
قابل عندما كان سجينًا في سيبريا ،رج ًل يقضي منهم أن المصادفة هي التي أوقعت هذه الشخصيات
عشرين سنة من الأشغال الشاقة لقتله أباه ،فأم ّده في طريقهم ،على نحو ما حدث مع دوستويفسكي
هذا بالفكرة الرئيسية لروايته» .أما دوستويفسكي، الذي تصادف وجوده في السجن مع قاتل أبيه الذي
فيحكي في «ذكريات منزل الأموات» عن هذه الواقعة استلهم منه حكاية الإخوة كارامازوف ،ونفس الشيء
التي كانت سببًا لبناء الرواية فيقول« :لن أنسى مدى حدث مع نجيب محفوظ الذي كان جال ًسا على مقهى
الحياة قصة ابن قت َل أباه ،وكان قبل ذلك ضاب ًطا، فاستمع إلى حكاية المعتقلين فكتب رواية «الكرنك»،
وكان من النبلاء .لقد كان هذا الابن مصدر شقاء وغيرها من حكايات لأبطال قادتهم حوادثهم الغريبة
أبيه .كان ابنًا شا ًّذا ما في ذلك شك؛ وكان الأب لأن يكونوا أبطا ًل للروايات.
يحاول جاه ًدا أن يص ّده عن سلوكه السيئ بإسداء «من أين يأتي ال ّروائي بأبطال روايته؟» ..سؤال لم
يمر دون تحقيق وتقصي .فجعله الفرنسي باتريك
النصح إليه عسى أن يوقيه (كذا) من الإنزلاق
إلى الهاوية التي كان ينحدر إليها ،فلم ُي ْج ِده ذلك بينو محو ًرا لكتابه« :أبطال الرواية الحقيقيون:
شيئًا .وإذ كان الابن مثق ًل بالديون ،وكان يتص ّور مشهورون مغمورن» (دار نينوي ،دمشق ،سوريا،
أن أباه يملك عدا المزرعة ،ما ًل ُيخبئه ،فقد قتل أباه )2010وقد ترجمه إلى العربية قاسم المقداد .حيث
بغية أن يئول إليه الميراث بمزيد من السرعة .ولم
ُت ْكتشف الجريمة إلا بعد انقضاء أشهر على ارتكابها.. انطلق المؤلف باحثًا عبر الوثائق التاريخيّة عن
لم يعترف الشاب بشيء ،ولكنه ُج ّرد من رتبته أولئك المغمورين الذين تقاطعوا مع مخيلة ال ُكتّاب
العسكرية ،وانتزعت منه امتيازات النبالة ،وأرسل وتحولوا إلى أبطال رواية معينة ،فكشف لنا عن
إلى سجن الأشغال الشاقة يقضي فيه عشرين عا ًما» أسماء الأبطال الحقيقيين الذين نسج المؤلفون من
(ذكريات منزل الأموات ،ترجمة سامي الدروبي، حياتهم حكاية أبطال رواياتهم مثل :جوليان سوريل
بطل رواية الأحمر والأسود ،والسيدة بوفاري بطلة
ص.)36 ،35 رواية فلوبير وغيرهما من شخصيات حققت نجا ًحا
في الحقيقة استفاد دوستويفسكي من كافة العناصر وشهرة على مستوى الأعمال الروائية .وإن كانت
الواردة في حكاية الشاب القاتل ،وصنع منها رائعته ظلت مغمورة في واقعها الحقيقي .وبدون أن يقصد
قدم لنا تلك التغيرات التي أجراها المؤلفون وهم
التي كتبها قبل وفاته بعام .التغيير الذي طرأ يعبرون بالحكاية [الجديدة] من فضاء الواقع إلى
على ال ّرواية يتمثّل في أ ّن إلقاء القبض على القاتل
جاء بعد يوم واحد من ارتكاب الجريمة وليس فضاء المخيلة.
بعد شهر كما حدث في الواقع .التغيير الثاني هو
أنه ب ّدل من شخصية الأب الذي كان في الواقع
طيبًا وناص ًحا لابنه ،إلى هذه ال ّشخصيّة (فيودور
بافلوفتش كارامازوف) المق ّززة والكريهة ،فهو أب