Page 114 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 114
العـدد 25 112
يناير ٢٠٢1
شيرين فتحي
أيام ورقية
لقد مر الزمن عليها دون أن يحقق أحلامها أو حتى كانت الأيام تمر عليها ببطء ووحدة غير محتمله ،لم تشعر
يتذكرها .لقد أنهت دراستها منذ تسع سنوات تقريبًا بنفسها إلا وهي متورطة في ممارسة تلك العادة الغريبة.
قضتهم ما بين كورسات اللغة وتحضير الماجستير ثم كانت تقطع ور ًقا من نتيجة الحائط وتمضغه في فمها كل
الدكتوراه .وحتى بعدما أنهت تلك الدراسات لم تحصل
على الوظيفة التي تمنتها ولا على شريك حياتها المنتظر. يوم ..حين يمتزج ريقها بطعم النشا وبالحبر المصنوع
لم تطفئ يومها شمعة عيد ميلادها الثلاثين ،بل تركت منه ذاك الورق الرديء كانت تشعر براحة محببة وخدر
الشمعة حتى احترقت وانطفأت لحالها ..فركت يديها غريب يسري في أوردتها من مفعول الحبر الذي ُكتبت به
كثي ًرا أمام الشمعة المحترقة ،دعكتهما ببعضهما البعض..
سمعت صوت طحن عظام الأصابع ،رفعت الكفوف نحو أيام الأسبوع.
الأنف باحث ًة عن روائح قديمة ربما علقت من ذكريات تعلمت تلك العادة في الصغر ،حين كان أبوها يعنفها على
غائبة ،من قصة الحب القديمة ،من أدوية كانت تنظمها فعل خاطيء ارتكبته .كانت تشعر بالظلم تجاه أي تعنيف
لأخيها مريض اللوكيميا الذي رحل صغي ًرا بعدما أتم
السادسة بأيا ٍم قليلة ،من حبر المذاكرة وتوتر الامتحانات.. أو عقاب .فتعلمت أن تمحو تلك الذكريات السيئة من
بحثت عن روائح ذات وقع أقل قسوة ولكنها لم تجد. رأسها ..كانت تأكل الأيام التي تتعرض فيها للعقاب سواء
في الصغر لطالما فكرت في أثناء لعبة الاستغماية ألا تعود
أب ًدا من اختبائها .كانت هذه الفكرة تغريها كثي ًرا ..حين بالضرب أو الحرمان من المصروف .كانت تأكل الأيام
كانت تضع وجهها في الحائط وتغمض عينيها وتعد للمائة الماضية وأحيا ًنا يومين إضافيين كي تتمكن من محو تلك
مانحة الوقت لرفقاء اللعب للاختباء ..لكم تمنت حينها ألا
تلتفت للعالم من جديد ..أن تدخل في الحائط ..أن تتوحد الذكرى تما ًما.
به وألا تخرج منه لاستكمال اللعب والبحث عن الرفقاء لاحظ أبواها اختفاء ورق النتائج ،لكنهما لم يعيرا الأمر
اهتمامهما ..ظنا أن أحد الأطفال كان يصنع منه مراكب أو
الصغار في مخابئهم.
كانت تكره لعبة الغميضة التي يربط فيها أحدهم إيشار ًبا مسدسات ورقية ليلهو بها.
في عيد ميلادها الثلاثين كان الأمر مختل ًفا .لم تشعر
حول عينيها ..كانت اللعبة تخبئها عن العالم لكنها لا
تعزلها عنه ..لا تترك لها حائ ًطا لتتشبث به ..لا يختبيء بالرضا أب ًدا تجاه سن ّي عمرها الفائتة ،خاصة بعد
الجميع عنها ..بل تشعر بهم وتسمعهم وهو يحاولون عودتها من رحلتها المشئومة التي قامت بها إلى مدينة
الإيقاع بها وجذبها للإمساك بهم ..تمتد الأيادي وتنحدر الإسكندرية ..حيث لم تتمكن من مقابلة حبيبها الذي
الأصوات فجأة وبلا مقدمات من كل الاتجاهات دون أن انتظرته لعشر سنوات فائتة حتى يرجع من غربته ..عاد
بالفعل من الغربة ،لكنه لم يعد إلى حضنها كما تمنت .عاد
تتمكن من إيقافها. بمشاعر باردة كبرودة تلك البلدة الأوروربية التي مكث
فكرت أن تحصل على جدار عال ..تختبيء خلفه من فيها سنواته العشر .باتت تشعر بالرفض تجاه سنواتها
العالم ..ستصنع نتو ًءا بار ًزا في باطن الجدار كي تدخل الفائتة ..اكتشفت أن للورق الذي أكلته كله نفس المذاق .لم
يكن هناك أي تغيير في الطعم من سبت إلى ثلاثاء ولا من
شهر مارس إلى أكتوبر ،وحتى لو اختلفت أرقام السنوات
المدونة على النتائج ببنط عريض .فدائ ًما كل الأيام
والشهور والسنوات لها نفس المذاق.