Page 76 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 76

‫العـدد ‪25‬‬    ‫‪74‬‬

                                                          ‫يناير ‪٢٠٢1‬‬

     ‫أخرى كثيرة‪ .‬وإذا ركبنا الفلنكات لنصف محطة‬           ‫بمستقبل زاهر‪ ،‬انطلا ًقا من شعارات فخمة‪ ،‬ومشاريع‬
 ‫فقط‪ ،‬يمكننا أن نجد أنفسنا على مزلقان غبريال‪ .‬فإذا‬        ‫محلية ودولية في ظل دولة العدالة والقانون‪ ،‬وأخبار‬
   ‫اتجهنا يمينًا‪ ،‬يمكننا أن نصل إلى باكوس ومنها إلى‬            ‫خطيرة ومهمة تملأ الصحف وتشبع احتياجات‬
 ‫جليم والإبراهيمية‪ ،‬بالضبط مثلما نصل إلى جليم عن‬           ‫جيوش من البشر لا أحد يعرف ماذا تعمل بالضبط‬
 ‫طريق فيكتوريا‪ ،‬ومنها إلى أي شاطئ ومنطقة وكأننا‬               ‫سوى ترديد الشعارات وحشد الناس للمزيد من‬
  ‫نلف وندور حول رأس الرجاء الصالح‪ .‬وإذا اتجهنا‬                                           ‫ترديد الشعارات‪.‬‬
  ‫يسا ًرا‪ ،‬سندخل إلى عالم غبريال الواسع مثل البحر‪،‬‬          ‫أرض شماعة لا تشبه أي أرض‪ .‬لم يكن لها مدخل‬
‫ونتجول في عزبة القرود وعزبة الصفيح بسكانهما من‬                ‫واضح مثل «طلعاية» كوم الدكة مث ًل‪ ،‬ولا مدخل‬
 ‫كل جنس وملة‪ ،‬ونرى الغجر الذين يعيشون حياتهم‬                   ‫معترف به من الحكومة والأهالي على حد سواء‬
  ‫ويجهزون عرباتهم وخيامهم استعدا ًدا لرحلة طويلة‬            ‫مثل مدخل كرموز أو كوم الشقافة‪ .‬بدأت عشوائية‬
  ‫في مكان ما‪ .‬ولكنهم عادة كانوا يعودون‪ :‬لم يكونوا‬             ‫وانتهت عشوائية إلى أن وقعت في أيدي بشر من‬
  ‫يغادرون غبريال و ِع َز ِبها أبدا مهما رحلوا‪ .‬ربما لأن‬       ‫ذوي السحنات الغريبة والمريبة يرتدون ملابس‬
                                                               ‫غير ملابسنا‪ ،‬ولهم ألسنة غير ألسنتنا‪ ،‬يطلقون‬
     ‫الإسكندرية «تبدأ فينا وتنتهي» كما قال لورانس‬        ‫أفكارهم ولحاهم وقوانينهم‪ .‬بدأت بحرامية ولصوص‬
                               ‫داريل في رباعيته‪.‬‬         ‫متواضعين يريدون أن يعيشوا مثل كل حرامية مصر‬
                                                             ‫ولصوصها من أبناء الطبقات الدنيا الذين يكتفون‬
    ‫العمل في الميناء والصيد كانا يشكلان إحدى المهن‬        ‫بسرقة الغسيل والفراخ‪ ،‬أو يسطون على ڤلل الأثرياء‬
   ‫الأساسية لأجدادنا وآبائنا‪ .‬ومع الزمن بات الكبار‬              ‫وشاليهاتهم‪ .‬ولكن الأمر انتهى بلصوص أكبر‬
   ‫يعملون في الورش والمصانع التي ُبنِ َيت مؤخ ًرا على‬
                                                         ‫وحرامية لديهم طموحات تاريخية باسم الدين وباسم‬
      ‫أطراف الإسكندرية‪ ،‬في الملاحات وأبو المطامير‪،‬‬          ‫الوطن‪ .‬فصارت منطقة شماعة مرت ًعا لكل الموبقات‬
    ‫ويذهبون للعمل في محافظة البحيرة‪ ،‬حتى أصبح‬               ‫تحت أنظار الحكومة وأولي الأمر ونواب الشعب في‬
 ‫نقل البضائع على عربات النقل الضخمة مهنة جديدة‬
  ‫إضافية إلى جانب الكثير من المهن الأخرى التقليدية‪.‬‬       ‫البرلمانات المحلية والبرلمان الكبير في القاهرة‪ .‬صارت‬
                                                           ‫صورة مصغرة من الإسكندرية التي تحولت أسماء‬
       ‫لم تكن رائحة البحر فقط هي التي تجمع بيننا‬         ‫شوارعها وحواريها ودكاكينها إلى أسماء غريبة لناس‬
‫وتوحدنا‪ .‬كانت هناك تلك اللحظات التي يمكن لسكان‬           ‫من قبائل قريش وسبأ وبني قريظة‪ .‬تلك القبائل التي‬
                                                         ‫كانت تقع في دول أخرى على الشاطئ الآخر من البحر‬
    ‫الفضاء‪ ،‬وللآخرين على الضفة الأخرى من البحر‪،‬‬
     ‫أن يروا فيها السكندريين في الشوارع يفترشون‬                 ‫الأحمر الذي يفصل بين قارتي آسيا وأفريقيا‪.‬‬
     ‫الأرض أمام بيوتهم ويلتفون حول الراديو الذي‬                  ‫كان الأولاد والبنات في سن الثامنة والتاسعة‬
   ‫يصدح بصوت أم كلثوم أيام الخميس من أول كل‬              ‫والعاشرة يخترعون الطرق‪ .‬فكان بإمكانهم أن يذهبوا‬
     ‫شهر‪ .‬كانت هناك أي ًضا خطب جمال عبد الناصر‬               ‫إلى كوبري الساعة عن طريق كوبري أبو سرحة‪،‬‬
    ‫التي تلهب في قلوبهم الحماسة وتشعل رؤوسهم‬             ‫حيث الأسواق‪ ،‬ودكاكين العطارة والبقالة التي يملكها‬
      ‫بكل الأفكار التي تمنحهم الثقة والقوة والعزوة‬        ‫النوبيون الذين فتحنا عيوننا عليهم كما فتحناها على‬
    ‫وأسباب الفخر ونسج الحكايات اليومية‪ .‬بعد ذلك‬            ‫البحر المالح‪ .‬غير أن أعدادهم زادت بشدة مع نهاية‬
      ‫ظهرت عفاف راضي التي ش َّك َلت الضلع الرابع‬
  ‫الذي يوحد السكندريين‪ ،‬فصار صوتها بالنسبة لنا‬                                              ‫الخمسينيات‪.‬‬
  ‫يحمل كل معاني انتمائنا للحواري والأزقة والموانئ‪،‬‬          ‫الجانب الآخر من القصعي‪ ،‬حيث نهايات الشوارع‬
   ‫وللبحر الواسع الكبير بأحلامه وأحلامنا‪ ،‬وبدموع‬          ‫الكبيرة‪ ،‬وربما الصغيرة أي ًضا‪ ،‬يذهب بنا إلى مدرسة‬
   ‫الفراق والرحيل‪ ،‬وبأحضان العودة واللقاء‪ .‬وربما‬         ‫«الجيل الجديد» القريبة من السكة الحديد‪ ،‬حيث مسار‬
  ‫أي ًضا بدموع الفرح‪ ،‬فنحن لا نزال نبكي في الأحزان‬           ‫القطار من محطة مصر إلى أبو قير‪ ،‬ما ًّرا بغبريال‬
 ‫والأفراح‪ ،‬وفي المآتم والأعراس‪ ،‬وتدمع عيوننا عندما‬       ‫ومحطة السوق والعصافرة والمندرة والمنتزه ومحطات‬
   ‫يقولون كلا ًما حل ًوا بحقنا‪ ،‬وتختلط مشاعرنا عندما‬
   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81