Page 79 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 79

‫‪77‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

  ‫صبا ًحا‪ ،‬بعد أن يطمئن على مزاج كل رجال المنطقة‪،‬‬       ‫ومناقشة ما جاء في الخطاب على صوت بدرية السيد‬
‫ويرى بعينيه أحفاده وهم متجهون إلى مدرسة «الجيل‬             ‫أو تزامنا مع بعض النكات الجنسية الجديدة التي‬
                                                             ‫يسردونها على استحياء وبصوت خافت لكي لا‬
  ‫الجديد»‪ ،‬ويداعب كل أطفال الحارة وهم يتفاخرون‬
‫أمام أطفال الحواري والأزقة الأخرى بأنهم يتحدثون‬          ‫يسمعها الأطفال الصغار الذين يتحركون كالعفاريت‬
                                                        ‫حولهم‪ ،‬أو تسمعها النساء اللاتي وإن كن يتحدثن في‬
          ‫مع أهم شخصية في المنطقة وفي البلد كله‪.‬‬
 ‫لا أستطيع أن أنسى عم حنفي مهما تغيرت الفصول‬              ‫كل تفاصيل الكون إلا أنهن يلقين بآذانهن‪ ،‬من باب‬
                                                                      ‫الاحتياط‪ ،‬إلى ما يقوله الرجال هناك‪.‬‬
       ‫ومرت السنوات وهطل المطر وهبت العواصف‬
    ‫والن َّوات‪ .‬فهو محفور في الذاكرة مثل رائحة اليود‬     ‫الحشيش والأفيون‪ ،‬يمثلان المزاج الشعبي‪ .‬لا حارة‬
  ‫وطعم الملح ونعومة الماء‪ .‬لا أدري إلى الآن لماذا كان‬    ‫أو زقاق بدون تاجر مخدرات‪ .‬وعم حنفي يسكن في‬
    ‫أبي وأمي يشتريان بعض لوازم البيت من أماكن‬           ‫حارة «أمير الحجاج» بجوار مدرسة «الجيل الجديد»‪،‬‬
‫بعيدة عن القصعي‪ ،‬على الرغم من أن شارعنا وشارع‬
   ‫كاشف وكل الشوارع المجاورة لكوبري أبو سرحة‬                 ‫مدرستي الابتدائية‪ ،‬ومدرستي في الحياة‪ ،‬حيث‬
 ‫مليئة بالدكاكين والمحلات وكل اللوازم!! أعطتني أمي‬        ‫تحتل أهم جغرافيا بين القصعي وغبريال‪ ،‬وتجاور‬
  ‫«خمسة تعريفة” وزجاجة كبيرة لكي أذهب إلى أول‬           ‫حارة «أمير الحجاج»‪ ،‬التي تصل بين شارع الكاشف‬
‫باكوس لشراء لتر سبيرتو أحمر للسبرتاية‪ .‬وأعطتني‬            ‫وشارع «ترعة عيد» الموازي لكل من شارعي أحمد‬
    ‫أي ًضا قرش صاغ لأسلمه لعم مرسي البقال الذي‬         ‫إبراهيم والكاشف‪ ،‬وتمثل أحد أهم قلاع المنطقة كهدف‬
  ‫يقف دكانه إلى جوار مقهى عبد العزيز‪ ،‬على مزلقان‬        ‫استراتيجي ومؤسسة أمن قومي‪ ،‬يستحقان الحماية‬
‫غبريال مباشرة‪ .‬وكان هذا «القرش صاغ» ثمن شيء‬             ‫من المخبرين وعيونهم ورجال المباحث‪ ،‬فكان الصغار‬
     ‫ما اشترته أمي من يومين أو ثلاثة أثناء مرورها‬
  ‫من هناك‪ .‬قطع ُت خط القضبان الحديدي الذي يسير‬              ‫والكبار يتناوبون على حماية الحارة‪ ،‬وعم حنفي‬
    ‫عليه قطار أبو قير‪ ،‬وألقيت بتحية الصباح على عم‬        ‫يجلس كيفما اتفق على أي مقهى فيها أو على باب أي‬
  ‫عبد العزيز القهوجي‪ ،‬لأنه كان يعرف أبي‪ .‬وقرر ُت‬
    ‫أن أتوجه مباشرة لأملأ الزجاجة بالسبيرتو أو ًل‪،‬‬         ‫بيت‪ ،‬فكل البيوت مفتوحة له‪ ،‬وكل الرجال تقريبًا‬
‫وبعد ذلك أمر على عم مرسي في طريق عودتي‪ .‬لكنني‬                                              ‫يعملون معه‪.‬‬
 ‫اكتشف ُت أن عم مرسي يبيع سبيرتو أي ًضا‪ ،‬وإذا رأى‬
  ‫أنني اشتريت من دكان آخر قد يغضب ج ًّدا‪ .‬قرر ُت‬         ‫عم حنفي بجلبابه الرصاصي الطويل الأنيق ووجهه‬
 ‫المرور عليه أو ًل لكي أسدد له الدين وأعطيه «القرش‬        ‫الأبيض وشعره الأبيض وذقنه البيضاء النابتة على‬

                    ‫صاغ»‪ .‬وأنتهي من هذه المهمة‪.‬‬             ‫الدوام و ِع َّمته البيضاء وحذائه الأسود اللامع‪ ،‬له‬
 ‫بعد أن ألقيت تحية الصباح على عم عبد العزيز‪ ،‬أقبل‬      ‫ابتسامة دائمة‪ .‬لا يظهر إلا بعد أذان العشاء‪ .‬والرجال‬
                                                        ‫في منطقتنا لا يتحلقون أمام مداخل البيوت إلا في هذا‬
   ‫نحوي صبي يكبرني بسنتين أو ثلاثة على الأكثر‪،‬‬          ‫الوقت‪ .‬يتحدثون عن عبد الناصر وعبد الحكيم عامر‪،‬‬
     ‫يرتدي ثيا ًبا نظيفة وجيدة‪ ،‬ويبدو عليه الاهتمام‬
                                                          ‫ويحكون قص ًصا عن عبد الحليم حافظ وأم كلثوم‪،‬‬
‫بنفسه‪ .‬ابتس َم لي وقال مباشرة‪« :‬عم عبد العزيز رجل‬          ‫ويثنون على الاتحاد السوفييتي وليبيا وفلسطين‪،‬‬
    ‫طيب‪ .‬هو صديق والدي‪ ،‬وابنه معي في المدرسة»‪.‬‬
                                                              ‫ويلعنون دين أبو أمريكا وإسرائيل‪ ،‬ويدخنون‬
‫وسألني مباشرة‪“ :‬أنا شفتك فين‪ ،‬فين؟ أنت‪ ..‬أنت‪..‬؟»‬         ‫الحشيش ويقلون السمك‪ ،‬ويستمعون لأغاني عفاف‬
 ‫ومن شدة إعجابي بشكله ونظافته قلت له على الفور‪:‬‬
 ‫“أنا رمزي‪ ،‬أيوه رمزي‪ .‬وأبي يجلس على هذا المقهى‪،‬‬                    ‫راضي ونشرات الأخبار وبدرية السيد‪.‬‬
                                                             ‫أنا أحب عم حنفي‪ ،‬لأنه دائ ًما هو الذي يسلمني‬
   ‫ويعرف عم عبد العزيز”‪ .‬فقال لي‪“ :‬نعم نعم‪ ،‬الآن‬             ‫الحشيش‪ ،‬ويبتسم لي‪ ،‬ويطلب مني أن أبلغ أبي‬
    ‫تذكرتك‪ .‬أنت رمزي ابن عم‪ ..‬ابن عم‪ .”..‬رأيت أن‬        ‫وأصحابه السلام‪ .‬وهو أي ًضا الذي كان يبدي دهشته‬
                                                         ‫في كل مرة عندما ألقي عليه التحية من بعيد بصوت‬
      ‫أوفر عليه التفكير والانشغال‪ ،‬فقلت له‪« :‬زاهر‪..‬‬        ‫خشن ومتفاخر‪ ،‬أمام زملائي في المدرسة وخاصة‬
                                                            ‫البنات‪ ،‬وأنا متجه إلى المدرسة في الصباح الباكر‪.‬‬
                                                         ‫كان يبدأ يومه بعد صلاة العشاء وينهيه في التاسعة‬
   74   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84