Page 82 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 82

‫العـدد ‪25‬‬    ‫‪80‬‬

                                                                                 ‫يناير ‪٢٠٢1‬‬

   ‫الصغار الذين كانوا يعرضونهم على الشاشة‪ ،‬ومن‬                                      ‫يحكي لي عن أمور وتفاصيل كان يحكيها له أبوه‬
 ‫الواضح أنهم تعرضوا لحملات وجولات من الضرب‬                                          ‫عندما كان يجلس مع أبي على المقهى‪ ،‬وعندما كانا‬
                                                                                 ‫يشتغلان م ًعا‪ .‬لا أذكر بالضبط متى وأين اشتغل أبي‬
                                         ‫المبرح‪.‬‬                                   ‫مع والد جابر‪ .‬ولكن لم يكن ذلك مه ًّما‪ ،‬أو يستدعي‬
  ‫عم حنفي مات‪ ،‬وموته ليس أقل من موت جمال عبد‬
   ‫الناصر‪ ،‬ولن يكون أقل من موت عبد الحليم حافظ‬                                         ‫مقاطعة جابر وهو يحكي عن تفاصيل مشوقة‬
 ‫بعد عدة سنوات‪ .‬لم يكن تاجر مخدرات فقط‪ ،‬بل كان‬                                       ‫وطريفة‪ .‬كن ُت مبسو ًطا وفي غاية السعادة لوجود‬
‫رجل خير وإحسان‪ ،‬وأ ًبا لأطباء ومهندسين وموظفين‬                                    ‫صبي أكبر مني سيكون صاحبي‪ ،‬أو صار صاحبي‬
 ‫في المينا والجمارك‪ ،‬وع ًّما لعضو مجلس شعب‪ ،‬وح ًما‬                              ‫بالفعل‪ ،‬لدرجة أنه يخاف علىَّ ويضع ذراعه على كتفي‬
 ‫لضباطي شرطة وجيش‪ .‬والأهم‪ ،‬أنه كان صديق أهل‬                                       ‫ليحميني من الزحام ومن اللصوص والحرامية‪ .‬وقد‬
‫القصعي وشماعة وغبريال وباكوس‪ ،‬وممو ًل للكثيرين‬                                  ‫نلتقي بعد المدرسة ونلعب م ًعا أو نركب القطار إلى أبو‬

    ‫في سوق شارع الكاشف‪ ،‬وصاحب الفرن المجاور‬                                                              ‫قير ونصعد الجبل هناك‪.‬‬
      ‫لمكتب البريد بالقرب من قسم شرطة فيكتوريا‪،‬‬                                   ‫انتهت منطقة الزحام‪ .‬شعرت بخفة ذراع جابر التي‬
                                                                                 ‫كان يحيطني بها‪ .‬نظر ُت ناحيته لكي أشير إلى الدكان‬
    ‫وصاحب قروض للعشرات من الأسر التي يسافر‬
      ‫أولادها وأربابها إلى ليبيا‪َ ،‬و َج َّد أولادهم جمي ًعا‪،‬‬                        ‫الذي أصبح على بعد عدة خطوات منا‪ .‬ولكن جابر‬
                                                                                ‫كان قد تب َّخر تما ًما‪ .‬انتابتني حالة ذعر وهلع‪ .‬تجمدت‬
    ‫وصاحب أجمل وأحن ابتسامة يمكن أن تصاحبنا‬
 ‫ونحن نركب الباصات الضخمة التي تقلنا إلى معسكر‬                                      ‫مكاني‪ ،‬وتحجرت دموعي في عين َّي‪ .‬لم أدر بنفسي‬
                                                                                 ‫إلا وأنا أمام عم حنفي على قمة حارة «أمير الحجاج»‬
     ‫الكشافة في أبي قير‪ .‬وصاحب أحن كف يمكن أن‬                                   ‫وهو يسألني لماذا يرتعد جسدي وترتعش شفتاي بهذا‬
    ‫تربت على أكتافنا فجأة ونحن نلتهم ساندوتشات‬                                  ‫الشكل‪ .‬عندئذ فقط انهمرت دموعي‪ ،‬وحكيت له حكاية‬

              ‫الفول والفلافل والمفتقة أمام المدرسة‪.‬‬                                 ‫جابر وما فعله معي‪ .‬ضحك عم حنفي‪ ،‬واكتشفت‬
    ‫مات المعلم حنفي تاجر المخدرات منذ زمن‪ .‬وربما‬                                 ‫أنه يعرف اسمي واسم أبي‪ .‬ولكنه قال إنه لن يحكي‬
     ‫غيروا اسم مدرسة «الجيل الجديد» في القصعي‪،‬‬                                    ‫له‪ .‬وأعطاني ثلاثة قروش ونصف‪ ،‬وصاح على أحد‬
   ‫وربما بنوا إلى جوارها مدرسة «عمرو بن العاص»‬                                     ‫صبيانه بأن يأتي له بزجاجة كبيرة فارغة ونظيفة‪.‬‬
    ‫أو «أبو سفيان بن حرب» أو «الخليفة المأمون» أو‬
    ‫«أبو لهب» أو آخر خليفة عثماني‪ ،‬ونشروا وجو ًها‬                                     ‫وأمره بأن يرافقني إلى دكان عم مرسي لأعطيه‬
      ‫تختلط في ملامحها الهوام والكواسر ومصاصو‬                                             ‫«القرش صاغ»‪ ،‬وأملأ الزجاجة بالسبيرتو‪.‬‬
 ‫الدماء‪ ،‬وضلالات الكفر والإيمان والجهل‪ ،‬وما أدراك‬
  ‫ما الكواسر والهوام وأبناء الرمال حين يهدرون دم‬                                    ‫عد ُت إلى البيت وكان أول ما لفت نظر أمي هو أن‬
‫الآلهة ويرفعون معاول همجيتهم ليبتروا روح الخيال‬                                    ‫الزجاجة ليست هي نفس الزجاجة التي أعطتها لي‪.‬‬
                                                                                  ‫فحكيت لها الحكاية بالتفصيل‪ .‬لم يغضبها أي شيء‬
                               ‫والجمال والجلال‪.‬‬                                  ‫إلا أنني أخذت الفلوس من عم حنفي‪ .‬عنفتني وكادت‬
 ‫مات عم حنفي‪ ،‬وسأكتب عنه رواية عندما أكبر‪ .‬وإذا‬                                   ‫تضربني‪ ،‬وقالت كلا ًما كثي ًرا لا أذكره عن عم حنفي‬
                                                                                 ‫وكيف يجند الأولاد للعمل معه‪ .‬غير أن أبي لم يعرف‬
     ‫لم يسعفني الحظ لأصبح تاجر مخدرات مثله أو‬                                     ‫هذه القصة أب ًدا حتى مماته بعد ما يقرب من ثلاثين‬
  ‫لأحتولىاديصرعنتهُ‪،‬حربشاما ًشياتفمقكينًراأمحعددممناهممثألنأبيكي‪،‬ملستأعلحيكميه‬   ‫عا ًما‪ .‬وعلى الرغم من كل ما قالته أمي‪ ،‬ومن غضبها‪،‬‬
  ‫ويكتب عن عم حنفي‪ ،‬ملهمي وقدوتي ومثلي الأعلى‪،‬‬                                    ‫ظلل ُت أحب عم حنفي وأتذكر له ما فعله معي بالرغم‬

    ‫رواية طويلة أو كتا ًبا مه ًّما يدرسونه في ما بعد في‬                                               ‫من أن أمي عرفت بكل شيء‪.‬‬
   ‫مدرسة «الجيل الجديد» المجاورة لحارته‪ .‬فهو أهم‬                                  ‫لم أتذكر ملامح جابر إلا بعد عشرات السنين عندما‬
   ‫نموذج ملهم للعديد من أولاد القصعي الذين كانوا‬                                ‫عرضوا في التلفزيون أفراد العصابة التي كانت تسرق‬
   ‫يرونه يوميًّا ويحلمون ليس فقط بالالتحاق بجيشه‬                                ‫غطيان البكابورتات لي ًل من شوارع الإسكندرية‪ .‬رأيت‬
   ‫وخدمته‪ ،‬بل وأن يصبحوا مثله ويواصلون طريقه‪.‬‬                                     ‫ملامح جابر في ملامح كل هؤلاء الأطفال والصبيان‬
   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86   87