Page 85 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 85
83 إبداع ومبدعون
قصــة
َمن الذي يقول هذا الكلام؟! لا أحد يعرف ،ولكنه مهمتان بشكل استثنائي :تهريب الخمور والاتجار
يتردد كالصدى في جنبات التاريخ والجغرافيا ،وفي بها ،وتجارة المخدرات والترويج لها! بينما كانت
الأحلام والأساطير والخيال ،وعلى حواف البحر «ستلا» تباع في محلات العصير والبقالة ،و ُتع ُّد من
والشمس والفراغ .إنه كلام يحفره مؤشر الوقت على ضمن المشروبات على المقاهي بكل أنواعها ،وفي البيوت
سطح الزمن ،يقيس به نبض مصر و ِق ْب َل َتها الحقيقية أي ًضا .وكانت ضي ًفا دائ ًما وصاحبة بيت أي ًضا لدى كل
ومصدر الأوكسجين الذي يغزي عقلها وقلبها ويضبط
إيقاع نبضها .والإسكندرية هي النبض الحقيقي لمصر طبقات وشرائح وطننا السكندري ودول الجوار مثل
ولتاريخها على الأقل منذ مرور الإسكندر الأكبر منها القاهرة! غير أن طبقة ما في إسكندريتنا تفضل الفولت
إلى معبد آمون في سيوه في أحد أيام شتاء عام 331
العالي ،وتستمتع بطعم الكحول الرفيع وممارسة
قبل الميلاد وإعطائه الأوامر ببناء المدينة إلى حين طقوسه ،لذلك ُخلِقت المشروبات المحلية والمستوردة
عودته بعد بداية الربيع بشهر أو اثنين .قالت لي جدتي والمهربة .تلك الطبقة ،خليط من المشارب والألوان،
إنها كانت قرية فرعونية صغيرة بائسة في مكان بعيد تمتد جذورها في كل بقاع الأرض ،فلا تعرف صاحبها
معزول عن كل مدن وعواصم مصر الفرعونية القوية إلا من ملامحه السكندرية وحكاياته بلهجته وطقوسه
وحياته التي انصهر فيها الدين والعرق واللون ،فلم
والكبيرة والمعروفة قبل التاريخ وبعده .نصحتني نعرف أن جارتنا في «شماعة» ،خالتي أم عاطف ،كانت
بقراءة الإلياذة لكي أضع يدي على التقويم الزمني مسلمة تركية متزوجة من مسيحي مصري ،وخالتي
ماجدة التي تسكن في الطابق العلوي يهودية مصرية
لأول ذكر في “الإلياذة” لهذه القرية ،حينما قام متزوجة من مسيحي إيطالي .وفوجئت الخالتان أن
«باريس» باختطاف «هيلين» من إسبرطه ،ورسوا أمي مصرية مسلمة وأبي مسيحي أرمني لم يسمع
قلي ًل في ميناء صغير في جزيرة تقع بالقرب من مصر: عن أرمينيا إلا من جده الذي جاء حتى قبل المذابح
إنها جزيرة فاروس .تلك الجزيرة شبه المستطيلة، التركية للأرمن .كل ما في الأمر أن جدي لأمي كان
المحاطة بشريطين صخريين على جانبيها .ربطوها ابنًا لمصري مسلم ومسيحية أمها أرمينية ،وأبي كان
بلسان ضيق مع الساحل ،فخلقوا ميناء شرقي وآخر
غربي ،يؤمنان السفن من مخاطر تقلب البحر وغضبه، ابنًا لرجل أرميني تزوج من عراقية مسلمة.
وفي القصعي ،كانت جارتنا النوبية المتعصبة،
ويقفان في مواجهة المعتدين. مسيحية .وعندما يصل الحدث نحو زوجها المسلم،
هكذا ُخلِ َقت الإسكندرية من السياسة والميثولوجيا تفتح شفتيها عن أسنان بيضاء من غير سوء في
ابتسامة لا عين رأتها ولا خطرت على قلب بشر وتقول
والتاريخ والجغرافيا .فمرور الإسكندر المقدوني كلمات كثيرة متواصلة ومتشابكة تشيع حالة من
عليها ،قبل أن تكون ،إلى معبد الإله آمون في سيوة، البهجة والألق .لم يكن الدين بالضبط هو الذي يشغل
لم يكن إلا سببًا واقعيًّا ،سياسيًّا وعسكر ًّيا ،من أجل نساءنا السكندريات .لم يكن يشغل أح ًدا في الأصل.
تحقيق الأسطورة وإكسابها قيمتها المادية لبداية عهد فماذا حدث بالضبط؟! لا أحد يدري! لقد استيقظنا ذات
بشري جديد ينبض فيه قلب العالم من هذه القرية صباح ،فإذا الشمس غائبة ،والقمر غائب ،وملامحنا
النائية .لا مجال هنا لتفسير التاريخ حسب الأفكار غائبة ،والبحر غاضب ،ووحوش سوداء كاسرة
المادية والتقويمات العادية .لا وسيلة للفهم ولا أداة
تحجب الهواء ،وتغلق النوافذ والأبواب.
إلا الأسطورة بكل قواعدها وقوانينها الصارمة
الفضفاضة. ()4
أكثر من ألف عام تقلبت الإسكندرية على نيران كلما ابتعد ْت مصر عن البحر ،كلما ضعف ْت الإسكندرية
الحضارات وحرابها ورماحها وصراعاتها ودسائسها وانهار ْت ..وكلما توغل ْت مصر في الصحراء ،كلما مات ْت
وثعابينها وسمومها .سقطت حضارات وقامت الإسكندرية وتلاش ْت.
أخرى :اليونانيون والرومان والبيزنطيون ،ثم
العرب والعثمانيون والفرنسيون والإنجليزُ .ولِ َدت
ثقافات وفنون وسادت ثم راحت وتلاشت ،لتتحول