Page 78 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 78
العـدد 25 76
يناير ٢٠٢1
ولا شيء ساكن ،ومع ذلك فهناك حضور للأشياء أفضل منهم هم شخصيًّا .في عيد الأم التالي عندما
وطغيان أبدي ثقيل لها ولوجودها المادي والروحي في كبرنا وصرنا في السنة الثالثة الابتدائية ،اعترف بلبل
لعزيزة بحبه وأهداها وردة .ولكزتني سمية بأن أقدم
آن م ًعا .تؤكد أن كل الطرق تؤدي إلى ما تريد ،وأن لها المنديل الذي وعدتها به بالأمس أثناء خروجنا من
البحر هو القبلة ومركز الكون وجوهر العقيدة ،فمنه المدرسة واعترافي لها بحبي منذ أن رأيتها لأول مرة
تنحدر الأماكن ويتفرع التاريخ ،وتنطلق الشوارع في العام قبل الماضي.
والحواري والأزقة مثل مشاعر وأحاسيس تخرج من “مدرسة الجيل الجديدة” ،أي جيلنا الجديد الذي
القلب .وفي الوقت ذاته تلتئم الأرض وتلتحم الشوارع
يضمني أنا وسمية وبلبل وعزيزة وعشرات
والحواري والأزقة لتضفر الجغرافيا بالتاريخ ومئات غيرنا ،تقع على شريط القطار مباشرة ،بين
بالأحلام وتنحدر برفق ومحبة إلى البحر جوهر
الروح ومكمن الوجود وسر الحكمة .لا أحد يستطيع “القصعي” و”غبريال” .بجوارها يمتد زقاق عم
أن يدرك السر إلا أبناء البحار الذين لا يستخدمون حنفي تاجر المخدرات .نصف أولاد المدرسة يشترون
البوصلات وحركة الشمس والنجوم والآلات الرقمية منه لآبائهم ،ونصف بنات المدرسة يستمعن لشكاوى
الحديثة لتحديد المواقع .السر يكمن في البحر الذي منه
ُخلِ ْق َنا وإليه نعود وبه نحدد سر الكون وحكمة الحياة: أمهاتهن من إدمان آبائهن على المخدرات .سنكبر
نجعل البحر قبلتنا ،ومنه نحدد كل مساراتنا ،ونتعرف وسنشتري لأنفسنا ،وبعد ذلك سيشتري لنا أولادنا،
على الطرق والشوارع والحواري والأزقة حتى نصل
وستشكو نساؤنا منا لبناتنا .لم يعدنا أحد بكسر
إلى ما نقصده. تلك الدائرة الجهنمية اللعينة .لا أحد يمكنه أن يغير
أما الشارع الذي يبدأ من “ابن رباح” ويأخذ اسم أباه أو أمه ،ولكن من لا يستطيع أن يغير نفسه؟! قد
“ابن عقيل” ليمتد قاط ًعا عشرات الحواري والأزقة لا يستطيع الإنسان لأسباب كثيرة أن يغير غيره أو
والشوارع الضخمة ،من بينها شوارع «ابن سلامة” يحسن من شروط حياة أسرته أو سكان حارته ،ولكن
و”ويصا واصف” و”رستم باشا” و”ممتاز باشا” هل هناك ولو نسبة واحد بالمئة أن تكون لديه القدرة
و”الجلاء” و”ابن منقذ” ،فيتغير اسمه ،عند تقاطعه على تحسين شروط حياته هو ،أو تغيير ولو بعض من
مع شارع “ابن قلاوون” ،إلى شارع “الكاشف” الذي ظروفه لكي يعيد بناء معبده ويزخرف قدس أقداسه،
يوازي شارع أحمد إبراهيم ،ويظل بهذا الاسم حتى ويحلق من جديد مع نوارس بحرنا نحو الشمس؟!
يصب في شارع القصعي الموازي دائر ًّيا لشارع الأمير
هذا الشارع يبدأ من شارع “رستم باشا” :يبدأ
عبد الحليم. باسم شارع “الشيخ عبد الحميد” .لا أحد يقول لنا
لوح ٌة سريالية خلاقة في شارع «أحمد إبراهيم» ،حيث من هو هذا الـ”عبد الحميد” .وإذا أردنا أن نعرف
فعلينا أن نتص َّرف أو نسأل الكبار الذين لا يعرفون
الرجال في حلقات أمام البيوت يشربون الشاي أو أص ًل .شارع عبد الحميد يقطع شارع “ممتاز باشا”
يدخنون الحشيش أو يشوون السمك أو يقلونه ،وربما ثم شارع “الجلاء” ،ومن بعده شارع “ابن منقذ”.
تلتف إلى جوارهم حلقات صغيرة من النساء اللاتي وعندما يتقاطع مع شارع “ابن قلاوون” يتغير
يطبخن أو يسمعن الراديو أو يتحدثن في شؤون الكون اسمه إلى شارع “أحمد إبراهيم” الذي يظل يسير
قاط ًعا حواري وأزقة وشوارع ،وتتفرع منه شوارع
وفي شؤون الآخرين ،وفي شؤون بعضهن البعض. وحواري وأزقة أخرى ،إلى أن يتقاطع مع شارع
يتحلق الرجال حول الراديو وسحابات الدخان “أحمد أبو خطوة” ليتغير اسمه مجد ًدا إلى شارع “ابن
عبد السلام” الذي يصب في نهاية المطاف في شارع
تكاد تصل إلى صيدا وبيروت وإسطنبول ومارسليا “القصعي” ومن بعده شارع “الأمير عبد الحليم”
وقبرص واليونان ،بينما يصدح صوت أم كلثوم
أو عفاف راضي أو عبد الحليم حافظ .كان تدخين حيث مدرسة الجيل الجديد الابتدائية.
للجغرافيا المتوسطية مفعول السحر ،لأنها تؤكد أن
الحشيش يتوقف فقط أثناء خطب جمال عبد الناصر، لا شيء بعيد ،ولا شيء ثابت ،ولا شيء ملموس،
وبمجرد انتهاء الخطاب ،يعتبر الناس أن مدفع الإفطار
قد انطلق ،ومن الممكن الآن فقط تدخين الحشيش