Page 96 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 96

‫العـدد ‪25‬‬                             ‫‪94‬‬

                                                                ‫يناير ‪٢٠٢1‬‬

‫لمياء نويرة بوكيل‬

‫(تونس)‬

‫وهذا أي ًضا حدث في ك ّل بيت‬

    ‫استدارت نحوي‪ ،‬وقالت وهي تحثّني على العمل‪،‬‬                 ‫لم أكن لأص ّدق لو لم أر الأمر بأ ّم عيني‪ ،‬نعم رأيته‬
   ‫إذ لاحظت ذهولي وصمتي‪« :‬ما تم ّسوه ْم ْش حتّى‬                    ‫بعين ّي هاتين اللتين سيلتهمهما ذلك الوحش‪..‬‬
‫يشيحو»‪ ،‬ث ّم أشارت إلى الأوراق النقد ّية المتناثرة على‬
 ‫الرخامة المحاذية لحوض الغسيل‪ ،‬وزادت‪« :‬خ ِّر ْجها‬            ‫لطالما اعتقدت بأ ّن الفساد بعيد عن مملكتي‪ ،‬فإذا به‬
                                                                               ‫يسكنها‪ ،‬يع ّرش فيها ويستمتع!‬
      ‫وان ُش ْرها في الشمس‪ ،‬ن َّظفتها ْملي ْح وع ّقمتها»‪.‬‬
   ‫الأمر الآن بات يقينًا جليًّا‪ ،‬لا يحتمل ا ّدعاء أو ذ ّرة‬   ‫كتمت أنفاسي‪ ،‬ودون أن أحدث ض ّجة‪ ،‬دنوت بضع‬
                                                             ‫خطوات إلى الأمام نحوها‪ ،‬كانت منحنية على حوض‬
     ‫ش ّك‪ :‬حماتي المو ّقرة‪ ،‬تغسل الأموال وتبيّضها!‬
       ‫نشرت ك ّل الأوراق النقد ّية على حبل الغسيل‪،‬‬            ‫الغسيل‪ ،‬ويداها الآثمتان منقوعتان بالكامل في إناء‬
      ‫وع ّرضتها لعين الشمس المح ّدقة‪ ،‬كنت ألتقطها‬
     ‫الورقة تلو الأخرى بلا خوف‪ ،‬هي الآن بيضاء‬                 ‫متو ّسط الحجم‪ ،‬تعلوه رغوة بيضاء كثيفة‪ ،‬وتفوح‬
     ‫ناصعة كالتوبة‪ ،‬لقد نزعت عنها حماتي ك ّل أثر‬             ‫منه رائحة معتّقة‪ ،‬ملأت جميع أركان البيت في الم ّدة‬
  ‫لتاريخها الأسود المريب‪ ،‬لكم تل ّقفتها أيا ٍد‪ ،‬وسكنت‬
  ‫أدرا ًجا‪ ،‬وقطعت مسافات‪ ،‬وهي لا تكاد تستق ّر عند‬                  ‫الأخيرة‪ ،‬واجتاحت غرفنا وكنباتنا وجلودنا‪.‬‬
‫مالك واحد‪ ،‬تهب نفسها بشرف وبغير شرف‪ ،‬تقول‬
   ‫حماتي‪« :‬المه ّم اليوم أن أنزع منها جراثيم الش ّك‪،‬‬               ‫كانت «نانا» تدعك ما بداخل الإناء بأصابعها‬
      ‫وأقطع دابر ذلك اللعين‪ ،‬ور ّبي لا ْن َخلِّي ْه يدخل‬
                                                            ‫المتم ّرسة العشرة‪ ،‬تلك الأصابع التي عشقناها ولعقنا‬
                                        ‫داري!»‪.‬‬             ‫أطرافها تي ّمنًا وب ًّرا‪ ،‬تلك الأصابع التي صنعت لنا على‬
 ‫هكذا بات صوتها‪ ،‬مرتف ًعا بالتهديد والوعيد‪ ،‬منذ أن‬
                                                               ‫م ّر أعوام من العيشة الراضية‪ ،‬ألوا ًنا من الأطعمة‬
                 ‫قلب حياتنا ذلك الفيروس اللعين!‬                   ‫ال ِز ْمنِيّة‪ ،‬أسعدتنا بها وزرعت في قلوبنا شجرة‬
      ‫لقد كنّا عائلة سعيدة‪ ،‬وكان بيتنا جنّة تغمرها‬
   ‫السكينة والاطمئنان‪ ،‬لقد تغيّرت حياتنا‪ ،‬وتغيّرت‬            ‫وارفة من المحبّة‪ ،‬تلك الأيادي التي ربتت‪ ،‬وهدهدت‪،‬‬
 ‫مشاغلنا‪ ،‬والأولو ّيات أعادت ترتيب نفسها‪ ،‬وانقلب‬                  ‫ور ّوضت على وقعها جنون السنين‪ ،‬وسبّحت‪،‬‬
      ‫الاطمئنان تو ُّج ًسا‪ ،‬وش ًّكا مرضيًّا في ك ّل شيء‬
   ‫وشخص‪ ،‬واضطربت علاقاتنا بالأهل والجيران‪،‬‬                  ‫وارتفعت أك ّفها بالتض ّرع والدعاء‪ ،‬كيف لها اليوم أن‬
      ‫فالك ّل ملازم لبيته‪ ،‬منكفئ على نفسه‪ ،‬ومكتف‬                               ‫تنخرط في الفساد‪ ،‬وتمعن فيه؟‬
‫بالسؤال عن بعد‪ ،‬وتلك المسائل التي كنّا نعتبرها أه ّم‬
‫الأوليات‪ ،‬كالتحصيل الدراس ّي لأبنائنا مث ًل‪ ،‬صارت‬            ‫لع ّل صو ًتا أفلت منّي‪ ،‬جعلها وبك ّل هدوء‪ ،‬تلتفت إل َّي‬
      ‫ثانو ّية‪ ،‬أمام سلطان الص ّحة‪ ،‬والنجاة من هاته‬           ‫نصف التفاتة‪ ،‬دون أن تح ّرك جذعها‪ ،‬ومن غير أن‬
  ‫الجائحة التي قبضت على العالم بأكمله‪ ،‬وانتشرت‬
 ‫فيه انتشا ًرا مؤذ ًيا‪ ،‬وجمعت البشر أجمعين على ه ّم‬                          ‫تتو ّقف عن مه ّمتها المريبة‪ ،‬تقول‪:‬‬
                                                                           ‫‪ِ -‬ي ْكفي ُه ْم َز ْعمة‪ ،‬ول ّل ْنزيد ُن ْف ُر ْكهم؟‬
                                                                ‫ولكنّها ق ّررت أن تكتفي‪ .‬أخرجت يديها وتناولت‬
                                                              ‫مصفاة كبيرة‪ ،‬ثم صبّت محتوى الإناء فيها‪ ،‬حتّى‬
                                                              ‫رشح السائل‪ ،‬ولم يبق في جوف المصفاة غير قطع‬
                                                            ‫ناصعة متلألئة بالذهب والف ّضة‪ ،‬بسطتها على منشفة‬

                                                               ‫عريضة كانت قد أع ّدتها للغرض‪ ،‬ث ّم ف ّرقت القطع‬
                                                              ‫عن بعضها البعض وهي تقول‪َ « :‬ن ِّحي ْتلُو ِج ّد والدي ْه‬

                                                                   ‫الك ْلب‪ ،‬والله لا نخلّي ْه ي ِم ّد عروقه في داري!»‪.‬‬
   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100   101