Page 98 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 98
العـدد 25 96
يناير ٢٠٢1
اليوم ،نحن في الشهر العاشر من ذات العام الثالث من عامنا الحال ّي ألفان وعشرون ،والذي
المنكوب ،نعيش على وقع الموجة الثانية للجائحة، يشارف الآن على الانقضاء ،كنّا نتابع الأخبار بكثير
عدد المصابين والموتى يزداد بق ّوة ،والفيروس من الاستهانة في البداية ،ث ّم التو ّجس ،أ ّما حين
داهية ،يراوغ الباحثين والأطبّاء ،ويختار على مزاجه اقتحم بلادنا ،تملّكنا الذعر واستوطن فينا ونحن
الضحايا ،بعض الذين يصيبهم يم ّر على أجسادهم ندمن على مدار اليوم ،متابعة نتائج الإحصائيّات في
م ًّرا خفي ًفا ،متخيّ ًرا منهم الأنف ،أو الحنجرة ،أو العالم ،وبالرغم من أ ّن عدد الإصابات والوفيّات كان
ضئي ًل مقارنة ببلدان أخرى من العالم ،ت ّم الحظر
حا ّسة من الحوا ّس ،أو المفاصل ،وبعضهم يقبض التا ّم عندنا ،بقرار وطن ّي صارم ،فتو ّقفت ك ّل المرافق
عليهم بلا رحمة ،يجثم على صدورهم ويزهق
بسرعة أرواحهم. بلا استثناء ،عدا الحيو ّية منها ،واشتغلت وفق
جدول ونظام يضمن السلامة من ناحية ،وتوفير
اليوم ،ما عاد أحد بإمكانه العودة إلى الوراء ،وإلى
الحظر التا ّم ،لقد تأقلم الغالبيّة مع الواقع الجديد ،قد الأساسيّات المعيشيّة من ناحية أخرى.
يلتزمون بالك ّمامات ،والسائل المع ّقم ومسافة الأمان، يجب أن أقول إ ّن تلك الا ّيام ،كانت لدى زوجي،
الأ ّيام الأروع والأسعد ،برغم هاجس الخوف الذي
أو يغفلون عن ك ّل ذلك ،متم ّسكين بمنوال العيش يسكنه ،كنت أرى في تلك الأشهر الأربعة ،أجنحته
القديم المعتاد. وهي تستعيد نم ّوها ،وا ّتساعها ،بشكل لم أره منذ
كان أولادي الأربعة صغا ًرا ج ّدا ،لقد استعاد ذلك
وحدها حماتي ،تواصل هوسها ،وحرصها على قطع الشعور القديم بالسيطرة والأمان ،الك ّل اليوم عاد
المنافذ أمام تس ّرب الكوفيد 19إلى مملكتها.
يسكن تحت جناحيه ،وينضوي آمنًا في دفئهما
ولكنّه لعين ،ابن أبالسة ،البارحة كنّا ننتظر عودة وحمايتهما .كان يغلّق الأبواب ،ويخرج بصدر عار
ابنتي الطالبة والتي تقيم بش ّقة بالعاصمة ،فإذا بها
في مواجهة مخاطر الفيروس ،يجلب لنا أكثر م ّما
تهاتفنا لتقول بأ ّنها لن تأتي ،وبأ ّنها سوف تلزم يمكن أن يحتاجه البيت ،مغل ًقا أمامنا ك ّل السبل
نفسها بالحظر ،لأ ّن علامات ظهرت عليها ،لا تدعو
والأسباب للخروج ،وكان ليقنعنا أكثر ،وليزدهر
للخوف ،ولكن تدعو للالتزام بالحظر!
كان وقع الخبر عظي ًما ،قالت حماتي وهي تجهش ريش جناحيه أكثر ،يمعن في المبالغة في تصوير
بالبكاء« :أغلقت في وجهه ك ّل المنافذ ،هنا في بيتي الخطر ،ويمعن في لاءاته الألف ،ومحاذيره الستّين،
هذا ،فإذا اللعين يصيب فلذة كبدي ويقتحم بيتي إلى درجة أ ّنه بات يهيّأ لنا أ ّن فيروس كورونا
يتر ّبص بنا في ك ّل مكان ومنفذ ،قد يهجم علينا
الآخر!». برأسه الضخم الأخضر ،ويغرس فينا قرونه المتع ّددة
وهمس زوجي واج ًما« :لو أ ّنها بقيت تحت جناحي!». الشائكة ،عند باب الدار لو فتحناه ،أو خلف النافذة،
انتقلنا إلى العاصمة أنا وهو ،بعد أن كنّا قد قضينا وتحت قارورة الماء التي اقتنيناها من الخارج.
يو ًما في التب ّضع والطبخ ،حملنا إلى ابنتي زادها
شهور أربعة م ّرت ،سائرة على وتيرة الخوف
الغذائي وأدوية تكفيها للأسبوعين اللازمين للعزل و ُوضعت لوذاللكحيطشةر،وحطتّتىن ُّظرمفع اسليرح اظلرحيتادةر،يجسيًّرا،عافنكليًّماا،
الص ّحي. وقع
تجاوزها وإهمالها ،فسحر الحياة لا يقاوم ،والك ّل
وضعنا المؤونة أمام باب الش ّقة ،وكلّمناها من بعيد،
ملتزمين بمسافة أمان ،كانت مرحة ،وفي ص ّحة في شوق كبير إليها ،امتلأت الشوارع ،والمقاهي،
أقسمت أ ّنها جيّدة ،برغم فقدانها لحا ّستي الش ّم
والشطآن ،وأقيمت الأعراس والاحتفالات ،وفتحت
والتذ ّوق ،وعدنا أدراجنا ،دون ض ّمة ،أو أن تتلامس الحدود ،ونسي الجميع ما كنّا فيه وما كان منّا.
الكفوف! حتّى زوجي ،خ ّف وعيده وتهديده ،وما عادت
عاد زوجي بنصف جناح ،وجناح آخر مكسور ،يج ّر مبالغاته تجدي ،أو تنطلي على أولادي ،إ ّن زهو
رجليه بأسى ،وير ّدد بلا هوادة« :لو أ ّنها بقيت تحت
الشباب يملأ صدورهم ،ويطيّر بعي ًدا أجنحتهم.
جناحي!».