Page 97 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 97

‫‪95‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

        ‫وفكرة الموت‪ ،‬إذ اكتشفنا كم هو إلينا قريب!‬                                                                                            ‫واحد‪.‬‬
‫تلك إذن سيرة حماتي «نانا»‪ ،‬أ ّما زوجي‪ ،‬ابنها‪ ،‬فذلك‬
                                                       ‫صور فظيعة تعرض في نشرات الأخبار‪ ،‬إصابات‬
                                       ‫أمر آخر‪.‬‬        ‫تتضاعف والعدوى تتن ّقل بوتيرة رهيبة‪ ،‬وعدد‬
   ‫قلت أمامه م ّرة وأنا أتن ّهد حسرة‪« :‬خسارة والله‪،‬‬
 ‫لكم فسد ك ّل شيء‪ ،‬لكم تع ّطلت حياتنا‪ ،‬ومشاريعنا‪،‬‬      ‫مريع من الأموات في المشافي ومرميّة في الطرقات‪،‬‬
                                                        ‫والما ُّرون يتجنّبون الاقتراب من ك ّل جثّة‪ ،‬يم ُّرون‬
      ‫وأحلامنا الصغيرة‪ ..‬إ ّني أفتقد معانقة والد ّي‪،‬‬   ‫سرا ًعا وهم لا يص ُّدقون بأ ّن الموت عبر بجانبهم‬
        ‫وتمضية أ ّيام عندهما‪ ،‬أحتاج زيارة أخوتي‪،‬‬                                        ‫وتخ ّطاهم!‬

   ‫كرهت جدران البيت‪ ،‬فلا جولات‪ ،‬ولا لقاءات‪ ،‬ولا‬        ‫هذا المرض فظيع‪ ،‬ولك ّن الوحدة التي يجد المريض‬
    ‫قهوة نتشارك الجلوس والحديث حولها‪ ،‬وحتّى‬
                                                       ‫عليها نفسه أفظع‪ ،‬أن تمرض يعني‪ ،‬أن تصير‬
‫الاصطياف ُحرمنا منه في هاته الصائفة‪ ،‬كما تأ ّجلت‬       ‫منبو ًذا‪ ،‬يتجنّبك أقرب الناس إليك‪ ،‬فلا ض ّمة حنون‬
    ‫مواعيد معارض الكتب‪ ،‬بل حتّى اللقاءات الأدبيّة‬      ‫ولا قبلة‪ ،‬وحدك أنت والوحش‪ ،‬تصارعه لتبقى على‬
    ‫تو ّقفت بالكامل‪ ،‬إ ّني فكري يتلبّد‪ ،‬وآفاق مخيّلتي‬
                                      ‫ينحبس!»‪.‬‬         ‫قيد الحياة!‬
      ‫ساعتها فقط ينتهي صبره عليّ‪ ،‬وتثور ثائرته‪،‬‬
                                                       ‫الموت نفسه‪ ،‬فقد هيبته‪ ،‬والميّت بفيروس كورونا‪،‬‬
‫وينطلق في وابل من اللوم‪« :‬ماذا؟ لقاء أدب ّي‪ ،‬أجننت؟‬    ‫صار ُيل ّف في كيس أسود‪ ،‬من سقط الما ّدة‬
     ‫وهل هذا وقته؟ الشعب يموت‪ ،‬الجثث بالآلاف‪،‬‬          ‫البلاستيكيّة‪ ،‬ليسير وحي ًدا إلى حتفه‪ ،‬وليرمى في‬
                     ‫المرض وحش يته ّدد البيوت‪،‬‬         ‫حفرة النسيان‪ ،‬وليست الإصابة بفيروس الكوفيد‬
                            ‫سيموت نصف البلد‪،‬‬           ‫‪ 19‬ما ضاعف الخوف‪ ،‬إ ّنما تلك الميتة الرذيلة‪.‬‬
                               ‫ثلاثة أرباع البلد‪،‬‬
                                ‫سنموت يا لمياء‪،‬‬        ‫كانت «نانا» في سابق الأ ّيام‪ ،‬تتحيّن الفرصة لتعيد‬
                                  ‫سنموت وأنت‬           ‫على مسامعي وصيّتها والسيرة التي أكره سماعها‪،‬‬
                            ‫تف ّكرين بلقاء أدب ّي؟»‪.‬‬   ‫فتذ ّكرني بأ ّنها تح ّب أن يقام لها‪ ،‬ساعة تتو ّف‪ ،‬عزا ًء‬
                              ‫هو هكذا‪ ،‬يأتي من‬         ‫لائ ًقا وأني ًقا‪ ،‬فلا يخرج من دارها جائع أو عطشان‪،‬‬
                           ‫المخاوف بأقصاها‪ .‬في‬
                          ‫الأ ّيام الأولى من ظهور‬      ‫وتح ّب أن يكون بيتها مر َّتبًا على الدوام‪ ،‬والصحون‬
                        ‫الجائحة في العالم‪ ،‬وبداية‬          ‫والكؤوس متو ّفرة بعدد زائد‪ ،‬تح ُّسبًا للفرح أو‬
                             ‫انتشارها‪ ،‬في الشهر‬
                                                         ‫العزاء‪ ،‬فأسألها كيف تف ّكر في ك ّل ذلك‪ ،‬وهل يه ّم‬
                                                          ‫الميّت ما يحدث بعده‪ ،‬وقد فارق الحياة بك ّل من‬
                                                       ‫وما فيها؟‪ ،‬فتمعن أكثر في وصيّتها الثمينة‪ ،‬وترفع‬
                                                       ‫سبّابتها نحو أعلى ر ّف من دولابها وتقول‪« :‬هناك‪،‬‬
                                                       ‫خبّأت كفني‪ ،‬وس ْفسار ّي الحرير‪ ،‬أح ّب أن أُل َّف فيه‬
                                                       ‫قبل أن أوارى التراب»‪ ،‬وحين تراني أجهش بالبكاء‪،‬‬
                                                       ‫عحل ّىق‪،‬كتوافلأي‪،‬صووتقلوبال‪:‬هي«ة‪،‬ماأِتنْباك ْين ِحش ّبعايِّل ِرْ ْتشببةنتوايل‪ْ ،‬قدا‪،‬‬
                                                                                                                                             ‫تر ّبت‬
                                                                                                                                             ‫الموت‬
                                                       ‫وما ْنخا ِفش مالمو ْت‪ ،‬أما ْن ِح ّْب نمو ْت بع ّزي‬
                                                       ‫وعزيزي»‪.‬‬

                                                       ‫ومن أجل ذلك باتت اليوم لا تغادر المنزل‪،‬‬
                                                       ‫متنازلة عن عادات التب ّضع والخروج‪ ،‬وتمعن‬

                                                       ‫في الأخذ بقواعد الحيطة والسلامة‪.‬‬
                                                       ‫لم تتغيّر مظاهر الحياة فقط‪ ،‬إ ّنما طال‬
                                                       ‫التغيير عقولنا‪ ،‬وبتنا نطرح أسئلة وجود ّية‪،‬‬
                                                       ‫عن الذات‪ ،‬والغير‪ ،‬والحياة‪ ،‬والأولو ّيات‪،‬‬
   92   93   94   95   96   97   98   99   100   101   102