Page 97 - مسيلة للدموع
P. 97

‫تلك الأم التي كانت تشتعل نشاطا فتغدو ذهابا وايابا منتظرة تلك اللحظة‪ ،‬وقفت صامتة كهدوء ما بعد‬
      ‫الإعصار‪ ،‬كانت تنظر إلى آسر وتلتفت خلفها لتنظر إلى الفتاتين‪ ،‬وكأنها تقول‪ :‬تف ّحصا النظر‪ ،‬أهو حقا‬
      ‫آسر؟ أليس حلما من أحلام كل ليلة الذي كان يأتي ليزيح عني بعض الشوق؟ عندما يحدث فيضان في‬
      ‫التفكير‪ ،‬وتطغى بحار الدموع فيأتي قارب النجاة في هيئة حلم؛ ليحملني طوال الليل‪ ،‬ويصل بي إلى‬

                                                                                           ‫شاطئ النهار‪.‬‬

      ‫اندفعت مسرعة نحوه‪ ،‬وعانقته‪ ،‬لم تسأل عن يده الملفوفة في قطعة القماش الزرقاء تلك‪ ،‬ولا عن بدلة‬
      ‫سجنه البيضاء التي أصبحت رمادية اللون‪ ،‬وانتابتها بقع بألوان مختلفة‪ ،‬وآثار دماء حاول أن يغسلها حتى‬

                                        ‫لا يلحظها أهله‪ ،‬لكنها تركت أثر‪ ،‬لم تسأل عن هذا كله‪ ،‬فقط عانقته‪.‬‬

      ‫مسحت على أرسه‪ ،‬وظلت تبكي على كتفه الذي وصلت إليه عندما انحنى؛ ليبقى في مستوى طولها؛‬
      ‫لتأخذ منه ما ُيسّكنها‪ ،‬ويأخذ منها ما ُيسّكنه‪ ،‬طفل ضاعت منه أمه ثم وجدها‪ ،‬أم أم ضاع منها طفلها ثم‬

                                                                 ‫وجدته؟ أي الشعورين أقوى؟ أهناك مقارنة؟‬
                                            ‫بئس المقارنة تلك‪ ،‬كلاهما تاهت روحه عن جسده ثم عادت إليه‪.‬‬

                                                  ‫فك آسر التفاف أذرع أمه من على جسده وقال لها مازحا‪:‬‬
                                            ‫‪ -‬ستنتهي الزيارة‪ ،‬وأنا لم أَر وجهك بعد‪ ،‬اشتق ُت إلي ِك يا أم آسر‪.‬‬

                                                                 ‫‪ -‬وأنا اشتق ُت إلي َك يا حبيبي‪ ،‬أأنت بخير؟‬

      ‫ظَّلت تتحسس قسمات وجهه‪ ،‬ربما تتيقن أنها ت اره أمامها فعلا‪ ،‬وأنها لن تستيقظ وتجد نفسها على سريرها‬
                                                             ‫ككل ليلة من تلك الليالي القاسية التي مضت‪.‬‬

                                                                          ‫‪ -‬أنا بخيٍر ما دم ِت أن ِت بخير‪.‬‬

      ‫اندفعت فاطمة‪ ،‬وعانقت آسر عناقا حرصت أن يكون رقيقا‪ ،‬فقد أرت علامات الألم على وجهه عندما‬
                                            ‫عانقته أمه بقوة؛ فعظامه كلها كانت تؤلمه من التعذيب والضرب‪.‬‬

      ‫عانقته عناقا رقيقا برغم معرفتها تمام المعرفة بأن العناق لا ُيشبع إلا إذا كان شديدا قويا‪ ،‬حتى تخترق‬
                            ‫الضلوع الضلوع‪ ،‬وتلتصق العروق بالأوردة‪ ،‬ويصير المتعانقان جسدا واحدا بقلبين‪.‬‬

‫‪97‬‬

                                                                                            ‫مسيلة للدموع‬
   92   93   94   95   96   97   98   99   100   101   102