Page 119 - m
P. 119

‫نون النسوة ‪1 1 7‬‬

‫وبالحيا ِد‪ ..‬بالأُفو ِل‪َ ..‬تح َت َس ْو ِط َم ْن َق َم ْع‬                                ‫عن السفر القصير من خلال غيابها عن نفسها‬
‫بال َّضيا ِع‪ ..‬بالودا ِع في المُ َق ْل‬  ‫ُمحاصرون‬                                         ‫فتتوارى كل احتمالات الألم لتخرج احتمالات‬
‫َكال ُّدمو ِع في ِسيا ِج المُعتق ْل»‬    ‫ُمحاصرو َن‬                                       ‫الفرح في السفر الذي لا ينتهي على الرغم من‬
‫تأتي قصيدة (محاصرون) في شكل شعري‬                                                     ‫قصره الموجود المتحقق في حياتنا فكلنا على سفر‪،‬‬
                                                                                        ‫والسفر عند الصوفية علامة سيميائية مركزية‬
‫مباشر ينتمي إلى حقول التقريرية‪ ،‬وفي ظني أن‬                                           ‫على الدخول في رحلة الفناء نحو المحبوب‪ ،‬فالسفر‬
                                                                                        ‫هو الخلاص من الدنيا للدخول في براح النفس‬
‫هذه التقريرية أفسدت القصيدة برمتها‪ ،‬ولو كنت‬                                           ‫الخالدة‪« ،‬فيشكل السفر حقيقة كل الأشياء‪ ،‬ومن‬
                                                                                       ‫الأسفار التي أحدثها الحق جل في علاه أنه أنزل‬
‫مكان زكي لحذفت كل هذه التفاصيل التي أرهقت‬                                              ‫القرآن الكريم‪ ،‬وخ َّص رسله وأنبياءه ُك ًّل بسفر‬
                                                                                     ‫أو أسفار تتلاءم وطبيعة البعثة والنبوة‪ ،‬إذ أسرى‬
‫القصيدة ومن ثم سترهق المتلقي‪ ،‬لكنني لم أستطع‬                                               ‫بمحمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وأهبط آدم إلى‬
                                                                                      ‫الأرض‪ ،‬ورفع إدريس عليه السلام‪ ،‬وحمل نو ًحا‬
‫تجاوزها دون الإشارة إلى الحصار الإنساني‬                                              ‫في البحر‪ ،‬وذهب بإبراهيم الخليل ليمنحه كراماته‪،‬‬
                                                                                        ‫وأخرج يوسف من الجب‪ ،‬وأسرى بلوط‪ ،‬وأمر‬
‫برمته والحصار الإسرائيلي لفلسطين المحتلة‪،‬‬                                               ‫موسى بالهجرة فرا ًرا من قومه‪ ،‬ورفع عيسى‬
                                                                                     ‫إليه‪ ،‬وذهب بيونس إلى بطن الحوت وأنزل الروح‬
‫كلنا محاصرون بالحياة لأن الحياة سجن كبير‬                                            ‫الأمين على قلوب أنبيائه‪ ،‬وأصعد الكلم الطيب إليه‪،‬‬
                                                                                     ‫فكل هذه نماذج من الأسفار التي تطال أو يطولها‬
‫ج ًّدا والحل في حياة الترحال والاكتشاف وعدم‬                                           ‫الكل‪ .‬كما أن الإنسان يجسد في مساره كل أنواع‬
‫الاستقرار البشري‪ ،‬فالشاعر لا يستقر هو كائن‬                                          ‫السفر؛ فخروجه إلى الوجود سفر‪ ،‬ونموه الجسدي‬
                                                                                     ‫سفر‪ ،‬وجريان دمه في العروق سفر‪ ،‬وكلامه دائم‬
‫لا يهدأ يعيش على قلق كأن الرياح تحته‪ ،‬فالحياد‬                                        ‫السفر‪ ،‬وحروف كلامه مسافرة عند خروجها من‬
                                                                                      ‫أعماق النفس‪ ،‬وأفكاره دائمة السفر بين المحمود‬
‫حصار‪ ،‬والضياع حصار والحب حصار أي ًضا حتى‬                                             ‫والمذموم‪ ،‬وفي المتنفس سفر للأنفاس‪ ،‬وفي الرؤية‬
                                                                                        ‫كما في الرؤيا سفر للأبصار في المبصرات‪ ،‬وفي‬
‫الزواج حصار‪ ،‬لا بد أن تنتصر الذات على كل هذه‬                                          ‫تعبير الرؤيا سفر وعبور من عالم إلى عالم‪ ،‬وأما‬
                                                                                      ‫عوالم الخيال فكلها أسفار في أسفار‪ .‬ثم إن موت‬
‫الحصارات التي حدثنا عنها محمود درويش في‬                                                ‫الإنسان سفر أي ًضا من العالم المحدود إلى العالم‬
                                                                                     ‫المطلق‪ .‬فالإنسان إذن في سفر دائم قبل أن يخلق‪،‬‬
‫قصيدته الخالدة حاصر حصارك‪ ،‬وتقول الشاعرة‬                                                ‫وحياته عبارة عن سفر من الميلاد إلى القبر»(‪،)1‬‬
                                                                                    ‫ومن ثم تتجلى صورة السفر القصير لمنحنا مقاب ًل‬
‫في قصيدة أخرى بعنوان (الذكر المؤيد)‪:‬‬                                                ‫جوهر ًّيا وهو السفر الطويل‪ ،‬فيمثل السفر القصير‬
             ‫ُي َؤ ِّر ُقني ال ُو ُقو ُف َعلى َمصيري‬                                   ‫الغياب المنقطع ثم العودة مرة أخرى إلى الحياة‪،‬‬
                  ‫وأحوالي َت َز ْل َز ُل في ُجنو ِن‬                                 ‫والطويل يمثل السفر المخلد حيث لا حياة له هنا بل‬
                                                                                    ‫انتقلت حياته إلى الآخرة كما هو معروف في تراثنا‬
     ‫ِبَعل َال َاوللَطوٍن ِحوا ُيْلُْد َِحه َُّطش ِمن ِيم ْنَب َقا َسئفييني (ص‪.)15‬‬
‫تبدو طبيعة الذات في قصيدة عبير زكي‪ ،‬طبيعة‬                                                       ‫الإنساني‪ ،‬وتقول الشاعرة عبير زكي‪:‬‬
                                                                                                              ‫«و ُمباحلاثباص ِرتوال َمُنخباتلروْعج ْع‬
‫مركبة‪ ،‬تعتمد على التركيب اللغوي الممتزج‬

‫بالحضور الصوفي من جهة والحضور الإنساني‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬فهي تحاسب الأرق نفسه‪ ،‬فيؤرقها‬

‫الوقوف على المصير‪ ،‬وكأنها تغالب الحياة كثيرة‬

‫التفكير والقلق‪ ،‬والحزن‪ ،‬لا تعرف هدفها كي‬

‫تستريح النفس‪ ،‬بل تصاب الذات بالدهشة والحيرة‬

‫عندما تجد نفسها قاطنة على اللوح المحطم في سفينة‬

‫الحياة‪ ،‬وأقول للشاعرة إن اللوح المحطم هو الحياة‬

 ‫نفسها التي نعيشها صبا ًحا مسا ًء‪ ،‬كلنا نعيش على‬
‫ظهر لوح محطمة لا تعرف الهدوء أو الاستقرار‪ ،‬بل‬

‫تمثل قصيدة عبير زكي جوهر القصيدة العمودية‬

‫التي تتفجر عنها إيقاعات الحياة المحطمة‪.‬‬

                                        ‫‪-------‬‬

‫‪1- https://www.mominoun.com/articles/%D‬‬

‫‪8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%B1‬‬
   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123   124