Page 47 - m
P. 47

‫‪45‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

                             ‫وجودها في السرد‪.‬‬         ‫تاخمت حدود لها وقعها السياسي والاجتماعي في‬
       ‫‪ -‬الإطار القاعدي للهوية السردية‪ :‬وتحاول‬          ‫العقل الجمعي‪ .‬لا تعيد رواية (أقراط الحلفاوية)‬
      ‫الشخصية السردية (الهوية) الإمساك بالفهم‬            ‫طرح إشكاليات اجتماعية أو نقدها على نحو ما‬
  ‫الديناميكي والموضوعي وربط ذلك بالتجربة التي‬           ‫أحدثته بعض الروايات مؤخ ًرا؛ فهي لم تخ ِل بل‬
  ‫صاغت هذه الشخصية ووضعتها في هذا الظرف‬                 ‫تكاد تحفر ‪-‬إن جاز الوصف‪ -‬عمي ًقا في طبقات‬
 ‫الذي يمثل النص السردي ورؤية الكاتب في النص‬              ‫تراكمت عليها صور من علل اجتماعية وعلاقة‬
                                                        ‫الراوي بـ(الحلفاوية) تدخل في هذا السياق على‬
                          ‫الروائي أهم مصادرها‪.‬‬         ‫ما يذهب الراوي في علاقته بالحلفاوية «أكثر من‬
  ‫وبمتابعة شخصيات الرواية في تفاعلاتها المتباينة‬          ‫م َّر ٍة‪ ،‬سألتني الحلفاو َّية إ ْن كان في عروقي أ ُّي‬
 ‫أمكن لها أن تتكون هويات في المعنى السردي حتى‬          ‫دماء «عرب»‪ ،‬حتَّى ولو كان ج ُّدك الخامس عشر‪.‬‬
 ‫الشخصيات الهامشية التي ذكرت في الرواية دون‬            ‫كن ُت أستغرب ذلك‪ .‬تقول إ َّن زوجة خالها‪ ،‬مفتِّش‬

     ‫أن تلعب دو ًرا على الرغم من وجودها النسبي‬       ‫الضرائب‪ ،‬وعدتها بأ َّنها ستق ُف معها وتحمل أهلها‬
   ‫في أحداث الرواية كشخصيات هامشية‪ :‬دفع الله‬             ‫على الموافقة على زواجنا‪ ،‬لو كان أهله من عرب‬
    ‫الأقرع‪ ،‬صديق يانس‪ ،‬خالد فخري‪ ،‬ليماء‪ ..‬إلخ‬
    ‫وتقوم بالتواصل ضمن حركة الأحداث بالشكل‬             ‫دارفور‪ ،‬فدارفور كبيرة‪ ،‬كما تقول زوجة خالها‪.‬‬
   ‫الذي فيما يبدو أن الراوي استعان بها وإن يكن‬         ‫تسائلني الحلفاو ّية بج ِّدية‪ ،‬في م َّرات عديدة‪« :‬لأ ِّى‬
   ‫وجودها محدو ًدا كشخصيات لا تنزاح من مكان‬           ‫القبائل في دارفور تنتمي؟»‪ .‬أجب ُتها م ّرة «نح ُن من‬
   ‫لآخر أو تتفاعل بعي ًدا عن النسق المنطقي للحدث‬      ‫قبيلة التَّعايشة»‪ .‬تسألني «هل هم عرب؟»‪ .‬أجي ُبها‬
‫وبالتالي تنسب مواقفها إلى تصورات غير محددة في‬        ‫«لا‪ ..‬ليسوا كذلك»‪ ..‬وإن يكن هذا المدخل موضوعيًّا‬
 ‫النص‪ .‬فهي تدخل في الحكاية والحكايات السردية‬            ‫لا يفيد كثي ًرا في قراءة الرواية من مقاربة نقدية‬
‫من داخل النص الروائي لا من خارجه‪ ،‬أي كأحداث‬
 ‫استباقية ‪ Internal Prolepsis‬تنتمي إلى الحكاية‬           ‫تبحث عبر قراءة نقدية تحليليَّة تنزع إلى تفكيك‬
                                                         ‫خطابات الرواية اللغوية والفنية داخل التشكيل‬
                             ‫بالاصطلاح النقدي‪.‬‬          ‫السردي‪ ،‬وكيف تمكن الروائي من تقدير موقفه‬
                                                         ‫تجاه حزمة قضايا ورؤى صاغتها شخصيات‬
    ‫تعدد المكان‬
                                                                                   ‫الرواية واحداثها‪.‬‬
    ‫من حيث المقاربة التقليدية النقدية فإن المكان في‬     ‫ولكن تشكل هوية سردية يمكن قياسها ونزعها‬
 ‫الرواية في حركة دائ ًما فتبدو الأحداث مترحلة من‬         ‫من واقع السياق السردي الروائي‪ ،‬وهنا تكمن‬
  ‫مكان لآخر (القطار‪ ،‬المحطات‪ ،‬المدن‪ ،‬القرى‪ ..‬إلخ)‬     ‫قدرة الكاتب (الروائي) على إضاءة ما يخبو منها‪.‬‬
                                                        ‫فأبعادها النفسية والاجتماعية وما يتم َّح ُل منها‬
    ‫أو حسب موقع الحدث ومحور الشخصية فيه‪.‬‬               ‫من نزوات ورغائب تستدعي عند المقاربة النقدية‬
  ‫فإذا كان وجود الشخصيات يمنح البعد الصوتي‬             ‫تحديدها وفق المستويات التي تخترق من خلالها‬
                                                        ‫النص السردي بحثًا عن الشخصية وهويتها؛ إذ‬
    ‫المتعدد؛ فإن المكان في رواية (أقراط الحلفاوية)‬
‫وتنوعه الطبوغرافي (الوصف البيئي) تجسيد شامل‬               ‫إن الشخصية والهوية رغم تداخلهما إلا أنهما‬
                                                     ‫ينفصلان من حيث الوجود والفاعلية السردية على‬
  ‫ومساحة إيكولوجية شملت وص ًفا لكل ما يتفاعل‬
     ‫في المكان من أنماط وثقافات وإحالات تاريخية‬                ‫متن الخطاب السردي‪ .‬على النحو الآتي‪:‬‬
       ‫كشفت عن مدى استخدام الروائي وتوظيفه‬            ‫‪ -‬أن تنبثق الهوية من شخصيات النص السردي‬
                                                       ‫(الروائي) في سياق تطور الشخصية استنا ًدا إلى‬
   ‫لعناصر المكان كاش ًفا لدقائق التفاصيل الحياتية‬     ‫ما يش ِّكل الممارسات الثقافية الاجتماعية بالإضافة‬
   ‫فجاء المكان مس ًحا أنثروبولوجيًا أخصب السرد‬        ‫إلى تطور العناصر التكوينية الأولى‪ ،‬ويتماهى هذا‬
 ‫في عملية تشويق متصلة في الزمن الروائي‪ .‬وبهذا‬          ‫المستوى من الهوية السردية مع تلك التي تسبق‬
‫تكون الرواية أوجدت مكا ًنا لديه طاقته في استيعاب‬
   42   43   44   45   46   47   48   49   50   51   52