Page 91 - m
P. 91
89 إبداع ومبدعون
القصة
-سي ْر للمارشي ِجي ْب ليا ُن ّص خبزة و ُن ّص كيلو -4
عن ْب.
بعد نصف ساعة تقريبًا ،جاء ساعي البريد.
أخذ ُت القطعة ،وانطلق ُت في الحين .وعندما ابتعد ُت توق َف بدراجته النارية ،من نوع موبيليت ،أمام
قلي ًل ،سمعته يقول لي بصوته الغليظ الأجش:
-العنب الأبيض عافاك ،ماشي الاكحل. السينما.
قلت له بأعلى صوتي: ر ُج ٌل طويل القامة ،شديد السمرة ،جميل الملامح،
-صافي. يرتدي قمي ًصا أصفر بلا أكمام ،ويضع على رأسه
الكاسكيطة الصفراء ،الخاصة بموظفي البريد .كان
مضي ُت مبتع ًدا بسرعة ،رغم شواظ الشمس ،وكنت لونه الأسمر يزيده وسامة .أسن َد دراجته النارية
أتساءل عن السبب الذي جعل سيدني بواتيي إلى حائط السينما ،ثم ألقى التحية على سي المختار،
بحركة من يده ،دون أن ينطق بكلمة ،وجلس في
يفضل العن َب الأبيض على الأسود .وعلى أية حال، الظل ،مستن ًدا إلى الحائط الجانبي .إثر ذلك ،خل َع
فلم يكن في نيتي أ ْن أشتري له شيئًا. الكاسكيطة ووض َع أمامه حقيب َته الجلدية ،المليئة
بالرسائل ،ثم أخر َج من جيبه مندي ًل وشرع يجفف
-6
عرقه الغزير.
وجد ُت أمي أمام البيت ،تتحدث مع جارتنا سلامة كان الطائر الأبيض الميت قريبًا منه ،لكنه لم يكترث
عن الحرب الدائرة بين العرب واليهود .كانت له ،وحين رآني واق ًفا هناك ،ناداني بصوت أجش:
الجارة تحكي لأمي كيف صعد جمال عبد الناصر ُ -مو ْت ُشو!
بنفسه في طائرته الحربية إلى أعالي السماء ،فوق كنت أعرف أن كلمة موتشو تعني الولد الصغير،
الغيوم ،وشرع يمطر الصهاينة بالنيران والقنابل.
جلس ُت على عتبة المنزل ،أستمع إلى حديث الجارة، لكن بأية لغة؟ مضي ُت نحوه في الحين ،وحين
دنو ُت منه ،فوجئ ُت بالشبه الكبير بينه وبين الممثل
وأتحسس في جيبي ذلك الدرهم الذي أعطانيه الأمريكي سيدني بواتييه .فل َّما اقترب ُت أكثر ،والت َقت
ساعي البريد .تخيل ُت الرجل الأسمر الوسيم جال ًسا
أعيننا ،لم يعد الأمر مجرد َش َبه ،بالنسبة إل َّي .هل
هناك ،حيث ترك ُته ،ينتظر عودتي رغم مرور كان دماغي الملتهب بفعل ال َح ِّر ،هو الذي جعلني
الساعات ،وداهمني الحزن والندم .وحين بدأت أقتنع ،في تلك اللحظة بالذات ،أ َّن الرجل الذي أق ُف
الجارة تحكي من جديد عن جمال عبد الناصر وعن أمامه هو سيدني بواتييه ،بلحمه ودمه ،في دور
طائرته الحربية العجيبة ،قف َزت إلى ذهني صورة ساعي البريد ،وأ َّن كاميرات التصوير مثبت ٌة في
الطائر الأبيض الذي سقط ميتًا أمام السينما .كن ُت مكان خفي ،وأ ِّني أؤ ِّدي دو َر الموتشو في الفيلم
خائ ًفا أن َيسقط جمال عبدالناصر بطائرته مثلما الذي يجري تصويره أمام سينما روكسانا ،في هذا
الصهد المفرط ،الذي َيخنق الأجنَّ َة في الأرحام ،بينما
سقط ذلك الطائر ،فينتصر علينا الصهاينة. الطائر الميت مل ًقى في حقل التصوير ،وسي المختار،
في الليل ،استسلم ُت للنوم بصعوبة ،بسبب الحر في الجهة المقابلة ،يلهث من ال َح ِّر ويضيق بالعرق،
الخانق ،ورأيت فيما يرى النائم ،أن سيدني بواتيي خلف طاولته الخشبية ،دون أن يتخلى عن ابتسامته
يمثل دور الأستاذ ،في الفيلم السينمائي «ملائكة
بقبضات مشدودة» ويشرح بعض الأمور لتلاميذه. الغامضة؟
وأنا كنت واح ًدا من أولئك التلاميذ ،داخل الفصل،
ولكنني لا أفهم كلمة واحد ًة مما يقول ،لأنني لا -5
أعرف الإنجليزية .ثم رأيت الأستاذ يقترب مني
نظ َر إل َّي سيدني بواتييه بمزيج من العطف
بهدوء ،تحت أضواء الكاميرات: والصرامة ،ثم سألني عن سني .أجب ُته أني في
-فين الخبز والعنب ،يا العفريت؟ الثانية عشرة .ورأي ُت ُه يضع يده في جيبه ويخرج
حفنة نقود ،ثم يتناول منها دره ًما واح ًدا ،عليه
(-م-ن-ك-تا--ب-قي-د-ال-ن-ش-ر) صورة محمد الخامس ،ويعيد الباقي إلى جيبه.
ناو َلني القطعة وقال لي بلهجة آمرة: