Page 236 - m
P. 236

‫على الطرف النقيض من‬        ‫الرغبة في تمثيل الشرق‪ ،‬الذي‬
 ‫ماركس‪ ،‬بدا كأنه على اتفاق‬    ‫يعجز عن تمثيل نفسه‪ ،‬هي رغبة‬

    ‫معه حول الشرق‪ ،‬فحين‬         ‫نابعة من إرادة القوة‪ ،‬لأن من‬
 ‫كتب ماركس في وصف أهل‬         ‫يمتلك القدرة على تمثيل الآخرين‬
‫الشرق يقول‪« :‬إنهم عاجزون‬
                                ‫هو في وضع أقوى منهم‪ ،‬وقد‬
    ‫عن تمثيل أنفسهم ينبغي‬      ‫كانت هذه هي رغبة كل إنسان‬
   ‫أن يم َثلوا»‪ ،‬وكان يرى أن‬   ‫غربي وما زالت‪ ،‬ويفتخر لورانس‬
   ‫على «إنجلترا أن تحقق في‬    ‫بأنه كان يمثل العرب في ثورتهم‬
‫الهند رسالة مزدوجة‪ :‬الأولى‬      ‫ضد الأتراك وفي كل المؤتمرات‬
   ‫تدميرية‪ :‬والثانية إحيائية‬  ‫التي عقدت لغرض تقاسم (الشرق‬
    ‫تجديدية‪ ،‬تدمير المجتمع‬    ‫الأوسط)‪ ،‬وفي هذا السياق يمكن‬
 ‫الشرقي الفلاحي الآسيوي‪،‬‬
                                      ‫قراءة ما كتبه بلفور‪.‬‬
      ‫وإرساء الأسس المادية‬
 ‫للمجتمع الصناعي التجاري‬         ‫هو عليه الآن‪ ،‬لا كما كان‬   ‫الثناء على مهندس البناء حين‬
                                ‫عليه في عهد بني إسرائيل‪،‬‬     ‫يحدد مقادير المواد المطلوب‬
        ‫الغربي في آسيا»(‪.)16‬‬                                    ‫استخدامها في المشروع‪.‬‬
     ‫إن هذه الرغبة في تمثيل‬          ‫إنه يريد للإنجليز أن‬        ‫إن توينبي لم يكن أكثر‬
     ‫الشرق‪ ،‬الذي يعجز عن‬        ‫يمتلكوا معلومات صحيحة‬           ‫وضو ًحا من ابن خلدون‬
      ‫تمثيل نفسه‪ ،‬هي رغبة‬     ‫ومعرفة واضحة على الأرض‬        ‫حينما قال‪« :‬إن أحوال العالم‬
   ‫نابعة من إرادة القوة‪ ،‬لأن‬     ‫التي سوف تكون مصدر‬           ‫والأمم وعوائدهم ونحلهم‬
 ‫من يمتلك القدرة على تمثيل‬      ‫رزقهم ورفاههم وتفوقهم‪.‬‬         ‫لا تدوم على وتيرة واحدة‬
 ‫الآخرين هو في وضع أقوى‬                                          ‫ومنهاج مستقر إنما هو‬
   ‫منهم‪ ،‬وقد كانت هذه هي‬           ‫إن توينبي مثله مثل أي‬     ‫اختلاف على الأيام والأزمنة‬
  ‫رغبة كل إنسان غربي وما‬            ‫مستشرق أوربي يريد‬
     ‫زالت‪ ،‬ويفتخر لورانس‬          ‫أن يعرف الشرق معرفة‬       ‫وانتقال من حال إلى حال»(‪)14‬‬
    ‫بأنه كان يمثل العرب في‬     ‫بيكونونية‪ ،‬بمعنى السيطرة‬         ‫لكن هل كان نقد توينبي‬
‫ثورتهم ضد الأتراك وفي كل‬          ‫على الطبيعة بقدر اتساع‬
‫المؤتمرات التي عقدت لغرض‬          ‫المعرفة ومن أجل منفعة‬     ‫لوهم الشرق الراكد ناب ًعا من‬
   ‫تقاسم (الشرق الأوسط)‬         ‫الإنسان‪ ،‬والإنسان هنا هو‬      ‫الحرص على طلب الحقيقة‬
  ‫(*)‪ ،‬وفي هذا السياق يمكن‬    ‫الإنسان الأوروبي البريطاني‬        ‫المجردة والمنزهة من كل‬
  ‫قراءة ما كتبه بلفور‪« :‬قبل‬   ‫الذي تقع عليه مهمة تحضير‬                     ‫غرض آخر؟‬
   ‫كل شيء أنظر إلى حقائق‬        ‫العالم(‪ .)15‬إن توينبي الذي‬      ‫لقد كان يرمي إلى تعرف‬
   ‫القضية‪ ،‬إن الأمم الغربية‬    ‫شاهدناه في الفصل السابق‬
     ‫فور انبثاقها في التاريخ‬                                 ‫حقيقة الشرق الحاضر‪ ،‬كما‬
    ‫تظهر تباشير القدرة على‬
    ‫حكم الذات‪ ..‬لأنها تمتلك‬
  ‫مزايا خاصة بها‪ ..‬ويمكنك‬
‫أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين‬
   ‫بأكمله فيما يسمى بشكل‬
‫عام المشرق دون أن تجد أث ًرا‬
   231   232   233   234   235   236   237   238   239   240   241