Page 237 - m
P. 237

‫الملف الثقـافي ‪2 3 5‬‬

‫وينتجون ويأكلون ويسلكون‬         ‫أي ًضا من أجل أوروبا كلها»‪،‬‬   ‫لحكم الذات على الإطلاق‪ .‬كل‬
        ‫ويتكلمون ويفكرون‬                ‫كما كتب بلفور(**)‪.‬‬      ‫القرون العظيمة التي مرت‬
        ‫ويفرحون ويحزنون‬                                          ‫على الشرقيين انقضت في‬
                                  ‫إن التنافس والصراع بين‬
   ‫ويلعبون ويتحاربون‪ ،‬وما‬         ‫الدول الغربية على تقاسم‬     ‫ظل الحكم المطلق والطغيان‪..‬‬
      ‫هي ردود أفعالهم إزاء‬                                     ‫أهو خير لهذه الأمة العظيمة‬
                                    ‫تركة الرجل المريض في‬       ‫أن نقوم نحن بممارسة هذا‬
  ‫المواقف التي تواجههم وما‬         ‫الشرق قد تم التعبير عنه‬      ‫النمط من الحكم المطلق‪ ،‬في‬
   ‫هي الدوافع التي تحركهم‬
                                     ‫بذلك الحشد الهائل من‬           ‫ظني إن ذلك خير»(‪.)17‬‬
     ‫لماذا يتصرفون على هذا‬            ‫النصوص التي كتبها‬           ‫على هذا النحو الاعتباطي‬
              ‫النحو أو ذاك‪.‬‬                                   ‫التسويغي الإيديولوجي يميز‬
                                 ‫مستشرقون زاروا الشرق‬           ‫بلفور بين نمطين للكائنات‬
      ‫هكذا غدت العلاقة بين‬          ‫وكتبوا عنه سواء كانوا‬     ‫البشرية‪ :‬نمط الأمم الشرقية‬
      ‫الغرب والشرق‪ ،‬علاقة‬            ‫مستعمرين أو باحثين‬         ‫العاجزة بطبيعتها عن حكم‬
   ‫بين ذات فاعلة وموضوع‬             ‫أو حجا ًجا أو رحالة‪ ،‬أو‬      ‫ذاتها‪ ،‬ونمط الأمم الغربية‬
 ‫منفعل‪ ،‬بين من يرى ويتأمل‬                                        ‫المفطورة منذ انبثاقها على‬
    ‫ويكتب ويفسر وبين من‬           ‫مبشرين أو دبلوماسيين‪،‬‬          ‫حكم الذات‪ .‬إن هذا المنطق‬
     ‫ي ُبسط موضو ًعا للرؤية‬          ‫أدباء‪ ،‬أو رجال دين أو‬      ‫الهيجلي التسويغي محكوم‬
 ‫والتصنيف والتقييد والحكم‬            ‫سياسيين أو علماء لغة‬       ‫دائ ًما بمقدمة بديهية تقول‪:‬‬
    ‫بين المستشرق الآتي من‬            ‫أو أنثروبولوجيين‪ .‬كل‬      ‫إن الشرق لو كان قاد ًرا على‬
‫بلاد الغرب المزدهر‪ ،‬والشرق‬            ‫النصوص التي كتبت‬           ‫حكم نفسه وتمثيلها لفعل‬
    ‫المتخلف الضعيف العاجز‬           ‫عن الشرق على اختلاف‬        ‫ذلك‪ .‬ومادام غير قادر فمن‬
   ‫الذي ينتظر من يأخذ بيده‬          ‫محتوياتها‪ ،‬كانت تصب‬       ‫الخير له ولنا أن نقوم (نحن‬
   ‫ويحييه‪ ،‬وهذا ما عبر عنه‬          ‫في تلك الرغبة المتعطشة‬     ‫بالمهمة من أجله ومن أجلنا‪،‬‬
  ‫المستشرق الألماني (لودفيغ‬                                   ‫«نحن في مصر لسنا من أجل‬
   ‫هيرمان فون) بعد زيارته‬         ‫لمعرفة أحوال أهل الشرق‬         ‫المصريين فحسب مع أننا‬
  ‫للجزائر وتونس عام ‪1835‬‬          ‫ومرابعهم‪ ،‬كيف يعيشون‪،‬‬         ‫فيها من أجلهم‪ ،‬نحن هناك‬
   ‫بقوله‪« :‬إنهم يتحلون أكثر‬        ‫وكيف يمارسون حياتهم‬
     ‫َمنا بمظهرهم وسلوكهم‬         ‫اليومية المباشرة في المنزل‬
      ‫بهيبة الإنسان الفطري‬       ‫وفي الشارع وفي الجامع في‬
 ‫ويفوقوننا من حيث السجايا‬      ‫الأرياف والمدن‪ ،‬كيف يعملون‬
     ‫البدائية‪ ،‬لكنهم لظروف‬
 ‫معينة ظلوا جاثمين عند أول‬
   ‫درجة من سلم الحضارة‪،‬‬
  ‫بالنسبة لغرائزهم الطبيعية‬
‫التي لا يتورعون عن إشباعها‬
‫بفظاظة بل قل بوحشية رغم‬
     ‫رقة شمائلهم‪ ..‬أصبحوا‬
   ‫جن ًسا منتك ًسا قاص ًرا عن‬
  ‫تحقيق أي نوع من النهضة‬
       ‫أو عن بعث أي ضرب‬
      ‫من ضروب الحضارة‪،‬‬
   232   233   234   235   236   237   238   239   240   241   242