Page 233 - m
P. 233

‫الملف الثقـافي ‪2 3 1‬‬

 ‫الاستشراقية‪ ،‬أنهم يقيسون‬          ‫دفع صبيًا في العاشرة من‬                           ‫وكانت وظيفة توينبي‬
 ‫كل شيء شرقي بمقاييسهم‬              ‫عمره للدراسة والبحث في‬                           ‫في دائرة الاستخبارات‬
  ‫ويسقطون عليه معاييرهم‪،‬‬
                                      ‫(تلك الأجرام السماوية‬                            ‫السياسية في وزارة‬
   ‫ومن ثم فإن حكمهم عليه‬              ‫المجهولة) أي حضارات‬                      ‫الخارجية البريطانية منذ عام‬
    ‫إيجا ًبا أو سلبًا إنما يكون‬  ‫الشرق؟ إن الإنسان لا يخاف‬
 ‫بمدى اقترابه أو ابتعاده عن‬         ‫إلا من ما يجهله‪ ،‬وقد أراد‬                        ‫‪ 1918‬تحتم عليه ذلك‪.‬‬
    ‫الأنموذج الغربي السامي‬         ‫توينبي كما أرادت بريطانيا‬                     ‫ثان ًيا‪ :‬اعترف توينبي بأن‬
‫والذي هو المثال الأعلى للعقل‬     ‫من قبل جعل الشرق معرو ًفا‬
‫والحضارة والتاريخ والتقدم‪.‬‬        ‫ثواملفًثاه‪:‬و ًمحارومصألتووًفاينبويمطاو ًعا‪.‬‬       ‫كل مصادره في دراسة‬
   ‫فكيف نظر أرنولد توينبي‬             ‫على تعلم اللغات التركية‬                   ‫الحضارات الشرقية هي من‬
 ‫للحضارة العربية الإسلامية‬       ‫والعربية إضافة إلى اليونانية‬                   ‫نتاج المستشرقين السابقين‬
‫وكيف فسر التلاقي والصدام‬               ‫والرومانية والفرنسية‬                      ‫أمثال فولني وجونز وبيلي‬
 ‫بين الغرب الحديث والشرق‬          ‫والألمانية والإيطالية‪ ،‬وعرف‬
                                    ‫بكثرة زياراته البحثية إلى‬                     ‫وشيلمان‪ ،‬إذ قال توينبي‬
                  ‫المتخلف؟‬         ‫عدد من بلدان الشرق منها‬                       ‫في معرض رده على سؤال‬
 ‫قبل أن نعرض لآراء توينبي‬           ‫مصر والسودان والعراق‬
                                    ‫والأردن وليبيا وفلسطين‬                         ‫بدء اتصاله بالحضارات‬
        ‫في الحضارة العربية‬          ‫والمغرب وإثيوبيا وقبرص‬                       ‫الشرقية‪« :‬لقد انطلقت من‬
       ‫الإسلامية‪ ،‬يحسن بنا‬                                                        ‫أربعة مجلدات في سلسلة‬
     ‫التوقف بالنقد والتحليل‬                         ‫وغيرها‪.‬‬                     ‫تاريخ الأمم تدور بالترتيب‬
   ‫عند الاستشراق من حيث‬              ‫راب ًعا‪ :‬كان توينبي مدير‬                   ‫حول مصر القديمة وآشور‬
        ‫هو الأسلوب الغربي‬           ‫المعهد البريطاني للشؤون‬
       ‫لتعرف الشرق وبحثه‬              ‫الدولية الذي سمي فيما‬                          ‫وميديا وبابل وفارس‬
   ‫ودراسته وفهمه وتصوره‬             ‫بعد المعهد الملكي للشؤون‬                   ‫والعرب‪ ،‬ويضيف‪ :‬في صباح‬
  ‫وتشكيله واختلاقه وتمثيله‬           ‫الدولية أو دار (شاتام)‪،‬‬                   ‫أحد الأيام عام ‪ 1898‬وحين‬
 ‫وترويضه وإحكام السيطرة‬           ‫ليتولى إصدار حولية سنوية‬
     ‫عليه وامتلاكه(‪ ،)1‬إذ هو‬      ‫للشؤون الدولية‪ ،‬عندما كان‬                      ‫غمرت الحضارات المصرية‬
      ‫حصيلة خبرة تاريخية‬          ‫زميله المستشرق الإنجليزي‬                      ‫والبابلية والسومرية نظري‬
      ‫متراكمة لشبكة واسعة‬             ‫لورانس العرب يخوض‬
    ‫من الممارسات والعلاقات‬          ‫الثورة العربية مع شريف‬                          ‫بأنوارها الطاغية كانت‬
‫الثقافية والحضارية والمدنية‪،‬‬     ‫مكة ويرسم على الرمل حدود‬                       ‫اللحظة المناسبة في تجربتي‬
    ‫بين الشرق والغرب‪ ،‬بين‬             ‫الدولة العربية الجديدة‪.‬‬
      ‫الأنا والآخر‪ ،‬بين نحن‬         ‫خام ًسا‪ :‬يتجلى استشراق‬                        ‫الفكرية حينما كنت أرقب‬
      ‫وهم‪ .‬هذه العلاقة التي‬      ‫توينبي في دراسته الحضارة‬                       ‫أجواء التاريخ‪ ،‬وكان ظهور‬
  ‫نمت وتطورت عبر التاريخ‬
    ‫في مسارات متقاطعة من‬               ‫الإسلامية حينما جعل‬                           ‫هذه الأجرام السماوية‬
  ‫الفهم وسوء الفهم‪ ،‬والشدة‬             ‫من الحضارة الهيلينية‬                      ‫(المجهولة) هو الذي نقلني‬
  ‫واللين‪ ،‬والحوار والصدام‪،‬‬         ‫والمسيحية الغربية مقيا ًسا‬
    ‫والسلم والحرب‪ ،‬والندية‬            ‫ثابتًا للمقارنة‪ ،‬وهذا هو‬                     ‫من حالة الركود إلى حلة‬
 ‫والتبعية‪ ،‬والتكافؤ والهيمنة‪،‬‬           ‫سلوك منتجي المعرفة‬                      ‫الفضول وحب الاستطلاع‪،‬‬
  ‫والقوة والضعف‪ ،‬والتحدي‬                                                         ‫هذا الفضول الذي ما زلت‬
                                                                               ‫سعي ًدا بتدفقه في ‪ 15‬سبتمبر‬
                                                                                 ‫من عام ‪ 1954‬أي بعد ذلك‬

                                                                                    ‫بأربع وخمسين سنة»‪.‬‬
                                                                               ‫والسؤال هنا هل هي محض‬
                                                                               ‫صدفة أن تنقدح شرارة حب‬
                                                                                ‫الاستطلاع في روح الصبي‬
                                                                               ‫الذي لم يتجاوز عمره حينها‬

                                                                                  ‫العشر سنوات؟ فما الذي‬
   228   229   230   231   232   233   234   235   236   237   238