Page 58 - m
P. 58
العـدد 58 56
أكتوبر ٢٠٢3
نقص الضمانات ،وهو في كل مدينة يحكي عن بدوية ،عنوانه «أهزوجة التهريب» ،يقول في بدايته
حاله وحال من معه ،فيعطي صورة غير مباشرة (ص« :)80هذه مجرودة التهريب من مصر إلى
عن أحوال المدن وناسها ،فعن مدينة سبها –مث ًل-
يقول (ص 13و« :)14قعدت السنة في سبها ،أقصى ليبيا قبل الزعيم أو في عهده ..لا أذكر بالظبط ،المهم:
الجنوب الغربي ،وهي العاصمة الثورية المقدسة إذا كان لكل رواية أغنية فهذه أغنية الصاد شين،»:
للزعيم الثائر ونظامه الأثور ،وفيها عاش ودرس
ثم يكمل الفصل بالأغنية فقط ،وينتقل إلى فصل
وبدأ الشرارة الأولى لثورة الفاتح التي سلمته آخر بعدها ،والأغنية يقول مطلعها“ :يا مرحب يا
ليبيا اثنين وأربعين سنة ،وأسس فيها أول مؤتمر بو دور خصيب = اسمع مني قول بترتيب /نقوله
شعبي عام وأطلق منها نظريته العالمية الثالثة في عن شغل التهريب = اللي ثلثينهم غلبانين /اللي
تحرير الإنسان .والحقيقة أنه حاول أن يجعل ثلثينهم ناس غلابا = دايرين أرواحهم هرابا /وهم
ديمة بالا الخرابا = حتى إن باتو ممسوكين /ونا
منها مدينة أوروبية بحدائق متسعة ومتنوعة ،لكن بيدي منهم يا هيه = وكان عندي ستين جنيه” ،وما
السبهاويين ،السكان الأصليين ،والتبو والطوارق، يستوقفني هنا ،ويستوقف القارئ ،أنه يقول بوعي
فهموا أو لم يجدوا أنفع من فهم أن الحدائق ما هي الكاتب الخارج عن النص« :إذا كان لكل رواية أغنية
إلا مراعي حكومية مس َّورة ،وتقاسموها بالأغنام
فهذه أغنية الصاد شين».
والإبل ،وعندما ضجت السلطات من مواشيهم هذا الوعي يقودنا إلى سمة من أهم سمات رواية
تقاسموا الحدائق في الح ِّش ،كل واحد يحش من «الصاد شين» ،وهي أنها لا تنفصل عن كاتبها،
منطقة معينة ،وأنا كان من نزهاتي النادرة في سبها فالكاتب هو الراوي ،هو البطل الذي يحمل اسمه
مصاحبة صديقي محمد الطارقي وهو بيحش في نفسه ،وهو نفسه صاحب الرؤية التي تقف بوعي
العصاري لأغنامه من حديقة المديرية العامة للثقافة خلف النص ،تحرك الأمور حسب فكرته عن الكتابة
والفنون في سبها» .وستجد شبي ًها لهذا عن المدن نفسها ،ورسالتها ،وعن الرواية وبنائها وعلاقتها
بتراث الرواية العربي خصو ًصا ،والعالمي بشكل
الأخرى في الدول الثلاث. عام ،وحسب قناعات اجتماعية وسياسية ودينية لا
الرواية هنا –إذن -لا تعتمد على الجماليات المستقرة تتردد في التعبير عن نفسها بشكل علني ،وتكسر
للكتابة السردية :الحكاية والتصاعد الدرامي وبناء
الشخصيات والصراع بينها والعقدة والحل ..إلخ، –بشكل علني أي ًضا -المقولات التاريخية عن أن
الفكر والفلسفة والسياسة والمعارف الأخرى تفسد
كما أنها لا تأخذ الطريق الذي يسلكه الروائيين
الذين يريدون كسر البناء التقليدي ،فيهشمون الأدب ،فنحن أمام روائي يكتب بوعيه الكامل
الزمن مث ًل ،بالتقديم والتأخير ،ويهملون المتن الطاغي ،ويريد أن تصل كتابته كما أرادها على
لمصلحة الهامش ،أو ي َّدعون هذه الأشياء ،لكنها –
الرواية -لا تعترف بهذا الموروث أسا ًسا ،وتخلق الأقل.
لنفسها نسقها الخاص الذي يعتمد العشوائية، والمكان في الرواية ينتقل بين جغرافيا المنطقة كلها،
فالكاتب يقول أي شيء في أي مكان وأية لحظة، من قرية في الفيوم إلى القاهرة فالصحراء الغربية،
كيفما ترد الأشياء على ذهنه ،ولا يتماس مع الواقع
فقط بل يدخل فيه ويعايشه ،لا ليصبح جز ًءا من ثم بنغازي وطرابلس وسرت وسبها في ليبيا،
الحكي ،بل ليصير هو نفسه الحكي .كل هذا في ومنها إلى إيطاليا ومدنها المشهورة ،تب ًعا لحركة
إطار وعيه بما يقدم ،وبالحدود التي تفصل الأدب البطل الذي سافر من قريته بالفيوم إلى ليبيا ليجد
عم ًل يدر عليه ما ًل مثله مثل معظم المحيطين به
عن الكلام العادي ،فهو ينفصل عن الأشكال في الثمانينيات من القرن العشرين ،ومنها قرر أن
المعروفة وهوامشها ليس ليخرج عن عباءة الفن، يسلك نفس الطريق الذي سلكه بعض ممن سبقوه
ولكن ليقدم لنا فنه هو ،الذي لم يسبقه إليه أحد.
بالإبحار إلى إيطاليا بشكل غير شرعيَ ،خ ِطر،
عن طريق مهربين يحصلون على مقابلات مادية
مرتفعة ،ويع ِّرضون حياة الشباب للخطر بسبب