Page 55 - m
P. 55

‫‪53‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬                                            ‫رواياتهم وقصصهم‪ ،‬وكذلك إبراهيم أصلان‬
                                                     ‫ويحيى الطاهر عبد الله اللذان لم ُي ْفرطا في الحكي‬
      ‫العنوان‪:‬‬
                                                         ‫مع اعتمادهما على المخزون الشعبي الحكائي‬
‫اختار حمدي أبو جليل لروايته عنوان «قيام وانهيار‬          ‫المستمد من الأساطير‪ ،‬لكن ما يميز حكي أبو‬
   ‫الصاد شين»‪ ،‬وهو ما يحيل القارئ مباشرة إلى‬          ‫جليل أنه منفلت‪ ،‬لا يخضع للموروث والمتعارف‬
                                                     ‫عليه‪ ،‬كما أنه يهدم الأسقف المعروفة للإبداع على‬
 ‫مجموعة أستاذه محمد مستجاب «قيام وانهيار آل‬             ‫المستويات جمي ًعا‪ ،‬سواء بالاعتماد على أشكال‬
   ‫مستجاب»‪ ،‬من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى يحيل إلى‬               ‫«مفروطة» غير منظمة‪ ،‬أو الالتجاء إلى قاموس‬
                                                      ‫لغوي خاص ومفارق‪ ،‬كما سأبين‪ ،‬أو أنه –وذلك‬
 ‫الكتابات المرتبطة بقيام وانهيار الحضارات‪ ،‬ومنها‬       ‫هو الراجح عندي‪ -‬يوهم القارئ بهذا‪ ،‬وهو في‬
     ‫وأهمها الحضارة المصرية القديمة والحضارة‬             ‫الحقيقة يقيم أبنيته الخاصة على غير نموذج‪،‬‬
                                                        ‫ويضع شك ًل خا ًّصا به وحده‪ ،‬يأخذ القصص‬
‫اليونانية وغيرهما‪ ،‬وهو الحقل الذي شغل أبو جليل‬     ‫العربي إلى مكان جديد‪ ،‬أبعد ممن سبقوه على طريق‬
‫في مقالاته الفكرية في سنواته الأخيرة‪ .‬لكن العنوان‬  ‫الخشونة المتعمدة‪ ،‬فنحن إزاء كتابة ليست مستوية‬
                                                    ‫منمقة‪ ،‬ولا تستخدم اللغة المتصالحة الأنيقة‪ ،‬وإنما‬
    ‫يثير سؤا ًل كبي ًرا‪ :‬ماذا يعني بـ”الصاد شين”؟‬      ‫نواجه أحرا ًشا ومستنقعات ومزالق ومرتفعات‪،‬‬
    ‫الصاد شين هم بدو الصحراء الشرقية بالنسبة‬       ‫وغيرها من ظواهر الطبيعة غير المشذبة التي تروق‬
   ‫لليبيا‪ ،‬بدو الصحراء الغربية بالنسبة لمصر‪ ،‬وهم‬
                                                                                         ‫للمتأنقين‪.‬‬
      ‫أقرب إلى بدو ليبيا لأن أهل مصر –تاريخيًّا‪-‬‬      ‫وإذا اتفقنا على أن الرواية فن غربي في الأساس‪،‬‬
 ‫مزارعون‪ ،‬استقروا حول النيل وأنتجوا حضارتهم‬        ‫استعارته اللغة العربية وحاولت إخضاعه لشروطها‬
  ‫العظمى على ضفتيه‪ ،‬وهم غير البدو الرحل الذين‬      ‫وشروط بيئتها وبلاغتها الموروثة‪ ،‬التي تقوم كثي ًرا‬
‫يتحركون في الصحراء طول الوقت بحثًا عن ظروف‬           ‫على التقابلات اللفظية والهندسة اللغوية‪ ،‬والنظام‬
                                                     ‫الدقيق الذي يربط مفاصل البناء الفني‪ ،‬فإن كتابة‬
    ‫مناخية أفضل‪ ،‬من الجزيرة العربية حتى حدود‬         ‫حمدي أبو جليل يمكن أن تكون انعكا ًسا للطبيعة‬
  ‫تونس‪ ،‬وأهم تجلياتها هي السيرة الهلالية وبطلها‬     ‫البدوية الصحراوية التي نشأ فيها ولا يزال يحمل‬
   ‫الشعبي أسمر البشرة‪ ،‬أبو زيد الهلالي‪ ،‬وهجرته‬       ‫سماتها حتى اليوم‪ ،‬رغم أنه نزح إلى القاهرة منذ‬
‫المشهورة إلى تونس بحثًا عن ظروف حياتية أفضل‪.‬‬
                                                       ‫زمن وعايش طبيعتها وناسها وأماكنها وخالط‬
    ‫الصاد شين بهذا المعنى ليبيون حسب التقسيم‬       ‫مثقفيها في أماكن تجمعهم‪ ،‬ويمكن أن يكون اضطر‬
  ‫الجغرافي الحديث‪ ،‬وإن كانوا يتنقلون عبر الحدود‬
 ‫بين ليبيا ومصر‪ ،‬بل إن بعضهم استوطن في قرى‬           ‫أحيا ًنا إلى الكتابة بلغتهم وهو يكتب في الصحافة‪،‬‬
‫شمال الصعيد‪ ،‬في بني سويف والفيوم‪ ،‬وهم الذين‬          ‫العربية بالذات‪ .‬هذه التربية الصحراوية هي التي‬
                                                    ‫ظهرت في كتاباته الروائية والقصصية‪ ،‬بخشونتها‬
             ‫ينتسب إليهم حمدي أبو جليل نفسه‪.‬‬          ‫وعدم استوائها‪ ،‬والأهم بعدم اعترافها بالراسخ‬
    ‫الطبيعة الصحراوية الجافة الشحيحة‪ ،‬والتحايل‬     ‫المتداول المألوف‪ ،‬فالبدو –فيما أعلم‪ -‬لا يلتفتون إلى‬
    ‫عليها وعلى الناس للحصول على شروط حياتية‬          ‫شروط الكلام التي نعرفها‪ ،‬فيرددون ألفا ًظا تبدو‬
   ‫أسهل‪ ،‬هي التي خلقت طبيعة هؤلاء البدو‪ ،‬وهذا‬      ‫جارحة لذائقتنا المستوية‪ ،‬كما لا يهتمون بالمتقابلات‬
 ‫ما يبدو واض ًحا في الرواية‪ ،‬حيث ينتقلون جماعات‬    ‫والخواتيم الفارقة‪ ،‬وهذا يظهر في بعض قصص أبو‬
    ‫جماعات من الفيوم وبني سويف إلى ليبيا‪ ،‬التي‬       ‫جليل التي لا تهتم بصنع مفارقة ما‪ ،‬تلك الفرقعة‬
    ‫شهدت طفرة مالية في الثمانينيات والتسعينيات‬
                                                       ‫التي تحدث عنها يوسف إدريس‪ ،‬فيصمت حين‬
      ‫من القرن الماضي بسبب اكتشاف البترول في‬                                ‫ينتهي من الحكي‪ ،‬فقط‪.‬‬
   ‫أرضها‪ ،‬ي َّدعون أنهم «صاد شين» ليحصلوا على‬
  ‫بطاقة يتعاملون بها باعتبارهم ليبيين‪ ،‬بل وليبيين‬
 ‫مميزين لأنهم أنساب الزعيم –معمر القذافي‪ -‬الذي‬
 ‫تقول الروايات إنه «صاد شين» في الأصل‪ ،‬وتقول‬
     ‫الحقيقة الواقعية إن أهله مميزون عمن سواهم‬
   ‫من الليبيين‪ ،‬بحكم سيطرته على الأرض والناس‪،‬‬
   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59   60