Page 92 - merit 49
P. 92
العـدد 49 90
يناير ٢٠٢3
حاتم بشر
قصص قصيرة
المهيب ،المزخرف ،الناطق بالعتاقة وال ِق َدم ،وتشبثي كوخ
بذيل جلبابها ،متأم ًل فيما حولي ،راف ًعا رأسي
على الطريق المائجة بالعربات ،الآتية من العمران،
إليها بين الفينة والأخرى ،أما ما قبل ذلك فممح ٌّو، الماضية إلى المجهول ،قام كو ٌخ لا ُيعرف متى أنشئ
لس ُت بمستطيع تب ُّينه ،لقد كنا على سف ٍر ،لا شك أو من بناه ،كان يقع من المسافرين موقع الفنار من
البحارة ،ينبوع الضوء الأوحد وال ُأنس على الطريق
عندي في ذلك ،ولكن أين كنا ،من أين كان مقدمنا، الموحشة ،الخالية من العلامات المرشدة ،هذا بالطبع
هذا ما لا أستطيع تحديده ،الوق ُت ظهيرة ،ولا إذا ما استثنينا الضوء الوحشي الآتي من المصابيح
الكونية ،كضوء القمر مث ًل ،أو كالشرر المتطاير من
حركة في الشارع الهاديء ،المحفوف بالأشجار،
والمثقل بالشمس ،فيما خلا رفيف العصافير، محاجر الذئاب الجائلة في الظلام.
من هذا الذي يتخذ من القفر المنقطع مسكنًا و ُمقا ًما؟
وزقزتها المتصلة ،الغامرة ،الآتية من الجهات كلها،
وينفتح الباب ،لا أدري أبدفع ٍة من أمي أم أنه من أين يستمد القوت لعيشه والطاقة للأضواء؟ لا
أحد يدري.
ُفتح من الداخل ،هل ولجنا ُه؟ إلا َم كان يؤدي؟ كم
لبثنا بالداخل؟ لا يسعني الإجابة َقط ،لأن شريط كانت شهرته الواسعة تستند على أمرين ،أو ًل ،أنه
الأحداث يجمد فجأة ،يتوقف جريانه على صورة كان الآية الوحيدة الدالة على وجود حياة عاقلة في
ذلك اليباب المترامي ،غير المحدود ،أما الأمر الثاني
أمي ،وقد حانت منها التفاتة ،بوجهها المضرج،
المتأثر بالقيظ ،ونظرتها المغرورقة ،التي عكست قلبًا فيكم ُن في الحكايات الم ُخ ُوفة التي كانت تدثره،
مفطو ًرا ،وصو ٌت أج ّش نافد الصبر يسأل من وراء وتضيف إليه مخايل الرهبة ،جاعل ًة منه مثا ًرا
الباب «هذا هو؟» ،وعند هذه اللحظة تغيم الذكرى، للخو ِف والتشويق في آ ٍن م ًعا .ومما تحاكى به
الناس أنه كان لمجذو ِم آثر العزلة ،وقيل بل مش َّوه
تتباعد ،تغرق إلى الأبد في ظلام دامس. الخلقة فظيع المنظر وليس مجذو ًما ،و ِم َن المسافرين
َمن ادعى رؤيته خط ًفا ،ومنهم من كان ينقل عن
شهادة آخرين زعموا رؤيته ،ومما قيل أي ًضا أن الكوخ كان
ملا ًذا لمجر ٍم أبق إلى العراء بعد فعل ٍة نكراء ذهبوا في
كان الطابور الطويل ،الممتد بلا نهاية ،يتلوى تخمينها كل مذه ٍب ،لكن الأكيد أنه لم ُيق َطع في أمر
وينساب خلال الممر المسقوف ،المحاط بأسوار الكوخ ولا في أمر صاحبه برأي ،وبقي الأمر لغ ًزا
خفيضة على جانبيه ،المؤدي إلى باب العيادة .نه ًرا مستغل ًقا لم تزده الأقاويل والتخمينات إلا إبها ًما.
من العضلات واللحم القمحي .كنا قد بدأنا في
التوافد والاصطفاف منذ السابعة صبا ًحا ،طب ًقا باب
للأوامر الواضحة ،التي ن َّصت على التجرد من
الثياب ،والتزام الصمت والدور .ويتقلص الطابور ما أتذكره هو وقفة أمي أمام الباب الحديدي،
ببط ٍء ُممض ،مضجر ،في صم ٍت كامل .فإذا ندت
همهمة أو ضحك ٍة كتيمة قوبلت بزج ٍر حاس ٍم من
العساكر العابسة ،المطيفة من حولنا ،حف ًظا للنظام.