Page 97 - merit 49
P. 97
95 إبداع ومبدعون
قصــة
حل أحدهم ضي ًفا عليه مرة يحمل رزمة كبيرة بنور عينيه حتى ساعته هذه .ح َّدث نفسه وهو
من الأوراق ملتم ًسا البقاء عنده مدة من الزمن يستضل بجدار من موجة سحاب تنهمر فوق رأسه
كي ينجز أطروحة دكتوراة وما يحتاجه فقط هو «متى تنعم هذه المدينة بالسكينة وتتقي شر قاتليها
الهدوء وراحة البال .لم يكن لديه ما يقدمه لصديقه
سوى إنارة تتسلل في جنبات الغرفة تنبعث من بباقة ورد؟” ،عندما وصل الأمر إلى منتهاه ،ترك
لمبة متعبة هي الأخرى من كثرة الاشتعال ،ورزمة مخدعه هر ًبا مما آلت إليه الأمور .كانت رحلة شاقة
من الجرائد وعدد كبير من الكتب .جلسا مرة في وطويلة بدأها برزم حاجياته ونسخ تواريخه ونقش
عصرية إحدى أيام الجمع -بعد أن قارب ضيفه من
الانتهاء من مشروعه البحثي -يستمعان للراديو حولياته والهروب منها شيئًا فشيئًا ،رحلة طويلة
ينثر أثيره حولهما« :الولايات المتحدة الأمريكية تفتح تخللها تسلق جبال عاتية ومنحدرات مميتة وقطارات
برنامج الحصول على الفيزا مؤقتًا ..بريطانيا تسعى
لاستقطاب العمالة الرخيصة من دول العالم الثالث.. ممغنطة وتلفريك ومراكب بالية ووحوش مفترسة.
ألمانيا تفتح أبوابها أمام اللاجئين ..الاتحاد الأوروبي لم يراوده أي شعور بالحنين إلى مرابع الصبا ومرتع
يحد من الشنغن.”.. الشباب.
-ماذا ستجني من قراءاتك وكثرة مراسلاتك؟ أورد عبارة «الحالمة» وهو يصف المدينة التي تطؤها
-عق ًل متنو ًرا وقل ًما يكتب وكلمة نابضة. قدمه في كل مرة ،حتى أنه بات يشعر بانتمائه لها
-ثم ماذا بعد؟ بكل أحاسيسه ونزعاته ،بعد أن كان قد انصهر
بداخلها واحتضنته هي بدورها .كان دائ ًما ينتقد
-جواز عبور البحر إلى الضفة الأخرى.
-والجدران الطينية الأربعة؟ زميليه بابتسامة عريضة عندما يخبرانه بأنهما قد
-تتملكني قدر احتوائي لها. أُصيبا بداء الحنين ،فما يكون منه إ َّل أن يصفهما
كانت غرفته الطينية الوحيدة مع مشتملاتها البسيطة بالضعف وهبوط العزيمة.
التي لا تتعدى ال َح َّمام الصغير ودورة المياه الأصغر، -لديك قلب يخفق بالجوار.
-لقد أعددت حقيبة سفر ليس إ َّل.
وقد سقفها بحزم القش وعيدان القصب ثم طلاها -وماذا وفرت لك حبيبتك الحالمة؟
بالطين الأحمر بمساعدة شباب القرية ممن لديهم -قل ًما وورق ًة وفنجان قهوة.
خبرة في بناء البيوت الطينية وتسقيفها وطلائها،
-وسيكارة أي ًضا؟
وقد كانوا سعداء بأدائهم لهذا العمل إذ شعروا -كلا ،فالتدخين فعل سلبي يلجأ اليه المستسلمون
-لأول وآخر مرة -أنهم ينجزون شيئًا يجهله ،أما
هو فقد كان أسعد منهم لحصوله على عدة امتيازات لهواجس النفس الضعيفة.
من بيت الطين هذا ،منها البرودة في فصل الصيف -وربما أدركت الموت قبل الوصول إلى منتهاك.
اللاهب في هذه المنطقة ،والشعور بالدفء في فصل لقد استشف منه عمق الدواة التي يكنها بداخله حتى
الشتاء القارس ،وهذا ما وفر عليه اللجوء إلى وسائل صيرته أحد أهم أصحاب القضايا العالقة على مدار
تكييف جو الغرفة في هذه البلاد التي تعاني من تقلب الكون ،والتي لا يمكن حلها بعقد قمة أو لقاء مشترك
الأجواء ،وحسب مدرس الجغرافيا فإن مناخ البلد أو فصل عشائري من طراز كامب ديفيد أو أوسلو أو
حار جاف صي ًفا ،بارد ممطر شتا ًء ،أما هو فكان لوكربي ،كما لا يمكن معالجتها بإسقاط دبلوماسي
يخبر زملا َء ُه بأنه معترض على هذه الحقيقة ،كان على غرار ووتر غيت ،أو بإعلان حرب عالمية ثالثة
دائ ًما يردد« :بل المناخ عندنا حار لاهب وقاتل صي ًفا، لسقوط برجي التجارة العالمية .مرة أفصح لأحد
بارد قارس مجدب ومميت شتا ًء». أصدقائه عن هدفه في الحياة قائ ًلا:
كانت الميزة الأخرى الأهم هي العزلة كونها تضعه “الحياة عبارة عن حلم جميل يمر بنا ،وعلينا أن
في موقع خارج مكانه وزمانه ،إ َّل أن الشيء الوحيد نصطاد منها ما نستطيع اصطياده كل حسب خبرته
وثقافته ليس إ َّل ،وأهم شيء أن تحصل على شارة
عبور إلى الضفة الأخرى بأمان» ،ولم يكن يقتنع
برأي معارضيه أ ًّيا كانوا.