Page 94 - merit 49
P. 94

‫العـدد ‪49‬‬          ‫‪92‬‬

                                                   ‫يناير ‪٢٠٢3‬‬

                ‫غرق‬                                 ‫قد ٍم وساق‪ ،‬شحذ النصال ومسح حوافها بقشور‬
                                                       ‫الليمون‪ ،‬ف ُتحد ُث جرا ًحا حارقة‪ ،‬عنيدة‪ ،‬لا تلتئم‬
    ‫ظهيرة عهد بعيد‪ ،‬لا أستطيع تحديده على وجه‬
  ‫الدقة‪ ،‬صيف بلا أدنى شك‪ ،‬في تلك الأيام لم أكن‬       ‫بسهولة‪ ،‬إيثاق الدروع المسرودة يدو ًّيا‪ ،‬المنقوشة‬
  ‫أحسب للطقس حساب‪ ،‬كانت كل الأجواء مواتية‪،‬‬           ‫بأسماء حامليها‪ ،‬أو برمو ٍز مروعة‪ ،‬إعداد الفتائل‬

       ‫مناسبة‪ ،‬قائظة أم ممطرة‪ ،‬لا فرق‪ ،‬لا شيء‬          ‫ورصها فوق الأسطح المطلة على الموقعة‪ ،‬بقرب‬
     ‫يحد حركتي أو يقيد انطلاقي‪ ،‬العام كله لعب‪،‬‬         ‫الأسوار‪ ،‬جا ًما لاهبًا ينصب عند الإشارة المتفق‬
   ‫أغافل أمي‪ ،‬المنكفئة على الطشت‪ ،‬أنتعل شبشبها‬        ‫عليها‪ ،‬وينتشر الخبر‪ ،‬ويعم الحي بأكمله‪ ،‬ف ُتغلَّق‬
 ‫البلاستيكي‪ ،‬أنساب من وراء ظهرها منس ًّل خلال‬          ‫الأبواب من الداخل بالجنازير‪ ،‬وتوصد النوافذ‬
   ‫الباب‪ ،‬وأنطلق برفقة أصحابي صوب «الزبالة»‪،‬‬
   ‫الشاطيء الطيني الشاسع الذي يطوق البحيرة‪،‬‬              ‫بإحكام‪ ،‬و ُي ْعلِم الحاض ُر الغائب‪ ،‬موصيًا إياه‬
‫فاص ًل بينها وبين العمران‪ ،‬مقلب النفايات الرسمي‬         ‫بالحذر‪ ،‬والحيطة‪ ،‬واتقاء الخروج‪ .‬أما ال ُّس َذج‬
   ‫للحي‪ ،‬ملعب صغاره بالنهار‪ ،‬وملاذ مجرميه في‬       ‫فيستنجدون بال ِقسم‪ ،‬الذي يدري مسب ًقا عن طريق‬
‫الليل‪ ،‬السماء مكظوظة بالطائرات الورقية‪ ،‬المتباينة‬  ‫مرشديه‪ ،‬والذي تسوده بالفعل حالة من التأهب‪ ،‬لا‬
‫الأحجام والألوان‪ ،‬بعضها على أبعا ٍد مهولة‪ ،‬تتراءى‬  ‫لمنع المذبحة‪ ،‬بل لجني ثمارها‪ ،‬فمن الخير أن يتقاتل‬

                                                                          ‫القتلة‪ ،‬مهما كانت النتائج‪.‬‬

                                                               ‫هزيمة‬

                                                       ‫نزل ْت الهزيمة المدمرة بجيشنا‪ ،‬وأُبيد عن آخره‪،‬‬
                                                         ‫جنو ًدا وعتا ًدا‪ ،‬أما أنا فقد نجو ُت بمعجزة‪ ،‬أو‬

                                                       ‫بالمصادفة‪ ،‬لا أدري‪ ،‬وإني لأفكر الآن في تفسي ٍر‬
                                                          ‫لذلك الإنهيار‪ ،‬والهزيمة المذلة‪ ،‬غير المتوقعة‪،‬‬

                                                       ‫التي أثارت سخرية العدو‪ ،‬وضحكاته المتشفية‪،‬‬
                                                       ‫إلا أنني لا أجد تفسي ًرا‪ ،‬ربما لأني مجرد جندي‬
                                                      ‫بسيط‪ ،‬نكرة‪ ،‬ولا دراية لي بتلك الأمور الجسام‪،‬‬
                                                      ‫مثل النصر والهزيمة‪ ،‬لست قائ ًدا عظي ًما لأعرف‪،‬‬
                                                      ‫وأما القادة فقد أُعدموا جمي ًعا‪ ،‬رميًا بالرصاص‪،‬‬
                                                       ‫إني ضائ ٌع في مفازة‪ ،‬لا أول لها ولا آخر‪ ،‬مثقلة‬
                                                    ‫بالشمس‪ ،‬وجيشي يقبع ورائي‪ ،‬هناك وراء الأفق‪،‬‬

                                                          ‫حطا ًما ودخان‪ ،‬وليمة لسباع الطير‪ ،‬وديدان‬
                                                       ‫الأرض‪ ،‬أحلم بشجر ٍة ظليلة ورشفة ماء‪ ،‬رشفة‬
                                                   ‫واحدة‪ ،‬آه لقد ُهزمنا‪ُ ،‬هزمنا‪ ،‬والقادة أُعدموا جمي ًعا‪،‬‬
                                                        ‫جندي نكرة‪ ،‬ضائ ٌع في مفازة‪ ،‬مثقلة بالشمس‪،‬‬
                                                      ‫ولا ظل شجر ٍة آوي إليه‪ ،‬وأرى دخا ًنا في الأفق‪،‬‬
                                                      ‫فأنطلق نحوه‪ ،‬عد ًوا‪ ،‬بكل ما تبقى عندي من قوة‬
                                                     ‫وطاقة‪ ،‬رشفة ماء‪ ،‬رشفة واحدة من أجل الجندي‬
                                                   ‫الضائع‪ ،‬في مفازة لا أول لها ولا آخر‪ ،‬الجندي الذي‬
                                                   ‫تحطم جيشه‪ ،‬ولا يدري السبب‪ ،‬والذي يقترب الآن‬
                                                     ‫من مباعث النيران والدخان‪ ،‬تحاصره الضحكات‬
                                                        ‫المتشفية نفسها التي انطلقت حين أُعدم القادة‪.‬‬
   89   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99