Page 95 - merit 49
P. 95

‫‪93‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

 ‫إنني أنظر وأرى ولكن بلا وعي‪ ،‬محض مساحات‬                 ‫كنقطة عديمة المعالم خلال السحاب‪ ،‬وبعضها قريب‬
   ‫لونية لا شكل لها‪ ،‬مقيد الحركة واللسان تما ًما‪،‬‬        ‫من الأرض‪ ،‬بحسب كمية الخيط ومتانته‪ ،‬بين الحين‬
   ‫غشاوة كاملة‪ ،‬منيعة‪ ،‬تطبق على العالم للحظات‪،‬‬
                                                             ‫والآخر تقع اشتباكات في الجو‪ ،‬تارة عن قصد‪،‬‬
 ‫تلفه‪ ،‬تطويه‪ ،‬ولكنها سرعان ما تنجاب عنه‪ ،‬شيئًا‬                ‫إثبا ًتا للتفوق أو رغب ًة في التفرد بالأفق‪ ،‬وتارة‬
    ‫فشيئًا يعود‪ ،‬يبرز من غبشتها‪ ،‬تتضح معالمه‪،‬‬                ‫أخرى بقوة الرياح‪ ،‬تتقارب المسارات والخيوط‪،‬‬
                                                            ‫تتقاطع‪ ،‬تتداخل فيما بينها‪ ،‬تتشابك‪ ،‬وعندئ ٍذ تبدأ‬
 ‫تتحدد‪ ،‬فأراني غائ ًصا في غو ٍر موحل‪ ،‬لجة طينية‬               ‫رقصة السقوط المريعة‪ ،‬مصحوبة بالضحكات‬
‫لا قرار لها‪ ،‬غائبًا في الأرض إلى ما دون رقبتي‪ ،‬ثم‬          ‫وأقذع الشتائم‪ ،‬عما قريب ستتخذ طائرتي مكانها‬
                                                               ‫في المضمار السماوي‪ ،‬لكن الأرض تدور بي‪،‬‬
           ‫أهوي إلى الأعماق مجذو ًبا بقوة هائلة‪.‬‬            ‫وساقي لا تطيعني‪ ،‬وأشعر أنني أغوص‪ ،‬أنزلق‪،‬‬
                                                          ‫تتعالى الصرخات المذعورة المرددة لاسمي‪ ،‬ويهرع‬
    ‫السادسة‬                                                 ‫الجميع باتجاهي‪ ،‬ولكنهم يمتنعون عن الاقتراب‪،‬‬
                                                          ‫يتحلقون حولي محملقين بعيو ٍن فزعة‪ ،‬لغط لا أقف‬
   ‫فجأ ًة يضطرب ال ُّسكون‪ ،‬يتخلخل‪ ،‬يهت ُّز‪ ،‬تعتريه‬       ‫منه على معنى‪ ،‬مادة صوتية مطلقة‪ ،‬أصداء غامضة‪،‬‬
    ‫انبعاجات حا َّدة‪ ،‬ونتوءات مسننة‪ ،‬إذن لقد هلَّت‬
‫الساعة السادسة‪ ،‬هذه طلعتها‪ُ ،‬ن ُذر دنوها‪ ،‬وفودها‬
     ‫عليَّ‪ ،‬ترتفع العقائر الصعيدية مقرقع ًة كالزلط‪،‬‬

       ‫ُتدمدم بأناشي ٍد من أعما ِق الجنوب‪ ،‬لياسين‬
       ‫التهامي‪ ،‬أحمد ال ُّتوني‪ ،‬يؤديها صو ٌت واحد‪،‬‬
 ‫محزو ٌن كالربابة‪ ،‬ترافقه الآهات الملتاعة‪ ،‬وخبطات‬
    ‫للأك ِّف مو َّقعة‪ُ ،‬تفصح عن وقع ِه الشجي‪ ،‬وأثره‬
      ‫الن َّفاذ‪ ،‬البالغ‪ ،‬المهيِّج لمواطن الشوق‪ ،‬والحنين‬
  ‫للعهود الخالية‪ ،‬للأمكنة القصية‪ ،‬المندثرة في نظر‬

     ‫العين‪ ،‬الباقية في نظر القلب‪ ،‬قد يستبد الطرب‬

 ‫بالسامعين أحيا ًنا‪ ،‬ويبلغ مداه‪ ،‬فتتداعى الأصوات‬
‫وتشترك في إنشاد جماع ٍّي‪ ،‬ينطق بأشوا ٍق جياشة‪،‬‬
  ‫عفوية‪ ،‬غير مصقولة‪ ،‬تقطعه بين الفينة والأخرى‬

  ‫صيحات احتجا ٍج جافية‪ ،‬تتفجر بالغيظ‪ ،‬اعترا ًضا‬
‫على الافتئات بأحبال الغسيل‪ ،‬أو إعرا ًبا عن مسيس‬

  ‫الحاجة إلى دورة المياه‪ ،‬أو وعي ًدا ساخ ًطا‪ ،‬قاسيًا‪،‬‬
   ‫ينذر بعاقبة التعدي على مساحة الغير أو متاعه‪،‬‬
 ‫شيئًا فشيئًا‪ ،‬ينحسر الهرج‪ ،‬مفس ًحا المجال لهدو ٍء‬
    ‫تدريجي‪ ،‬لا يلبث أن يصير صمتًا كام ًل يزخر‬

     ‫بروائح لا َّذة‪ ،‬شهية‪ ،‬تنم عن حذاق ٍة في ال َّطهو‪،‬‬
‫ودراية واسعة بفنونه‪ ،‬حصيلة سنوا ٍت من التَّغ ُّر ِب‪،‬‬
‫والاضطرار‪ ،‬تتخلله اصطكاكات الملاعق بالصحون‬

 ‫المعدنية‪ ،‬ورشفات الشاي المغليِّ المستع ِذبة‪ ،‬الملتذة‪،‬‬
   ‫ثم الاتصال الهاتفي اليومي بالبل ِد والأه ِل‪ ،‬حيث‬
‫الشوق المبرح إلى الول ِد‪ ،‬والقلق الشديد على الحيوان‬

   ‫والزرع‪ ،‬والنجوى الداعبة‪ ،‬الفاحشة‪ ،‬المهموسة‪،‬‬

   ‫المسموعة رغم المسارة‪ ،‬المحسوسة رغم المداراة‪.‬‬
   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100