Page 99 - merit 49
P. 99
97 إبداع ومبدعون
قصــة
تلو الأخرى بصوت مسموع: المآسي حول العالم.
-إن له خلوة ،فقد كان يؤنس بيته بجلوسه يستظل -كان بيتك الطيني فأل حسن عليَّ.
جدرانه في عصريات الصيف ،ويستأنس بأشعة -الهدوء ومصادر المعرفة.
الشمس شتا ًء والكتاب لا يفارق أنامله يقلبه يمينًا -وهل من الممكن توفيرهما في مكان آخر من العالم؟
وشما ًل. -نعم .ما وراء البحار حيث الشواطئ الحالمة.
-لقد غادر إلى بلاد بعيدة يحتضن الغربة ويتنسم -ألم أقل لك بأني محظوظ؟
-نعم .لأنك تنظر أمامك.
عبير الحنين. -وماذا أنتظر بعد؟
-ربما هو الآن يتيه في المدن المزدحمة بضوضائها
أدار بنظره أحد مشايخ القرية باتجاه الغرفة
وتلوث هوائها وضيق مساكنها. المتسمرة قبالة مجلسهم وراح يتأمل هيبتها لعله
-لماذا لا يكون في قرية أخرى أو مدينة قريبة؟ (قال يستنبط شيئًا من سرها ،ومما زاد حيرته ذلك الباب
المقفل منذ أكثر من سنة دون أن يجرؤ أحد على
أحد المسنين وهو يوزع حبَّات الحصى على الحفر فتحه ،بينما يوميًّا تستيقظ القرية على خبر سرقة
الثمانية) حاجة ثمينة من بيت ،أو غلة من حقل ،أو حيوان
من حظيرة .أراد أن يجد لها مبر ًرا واح ًدا فجاءه
-لكان قد حضر وأخذ حاجياته ،أو على الأقل اطمأن دون عناء« ،لا يوجد فيها ما يشبع بطون الجوعى
عليها. من لصوص القوت ،ولا حاجة ثمينة تشبع غرور
السفهاء الحمقى» .عندما اكتملت عملية جمع حصاة
دخل إلى مخدعه في المدينة الجديدة وألقى بنظرة البستة(*) الناعمة كان الجميع يلتف حول ُحف ِرها
على أمتعته وكتبه وتبعثر أوراقه ،هبط السلم ميم ًما الثمانية بانتظار بدء اللعبة التي جلس حول ميدانها
شطره تجاه الشاطئ بعد أن ألقى آخر نظرة وداع
الكبار ،بينما تحلق حولهم عدد من الشباب.
على مخدعه ،اتخذ له طري ًقا وبين أشجار النخيل قال الشيخ وهو يسقط حبات المسبحة بيده واحدة
والسرو راح يتنسم عبير اليابسة بنفس عميق وروح
جيَّاشة ،فقد أراد أن يتشبع من بخارها وغمار رمالها
المتموجة لآخر مرة قبل مغادرته إلى مدينة أخرى
حالمة ربما لا صحراء لها.
إنها رحلته الأخيرة التي أعد لها منذ زمن ودفع فيها
ثمن كل ما يملك من مال وحاجيات وكتب وأوراق
وتواريخ ُم َس َّطرة ،حتى وطنه كان من بين مفردات
الصفقة بترابه ومائه وسمائه وأنجمه ،وعليه أن
ينسلخ منه بالكامل إن أراد الوصول للضفة الأخرى
التي ربما لن يدركها حيًّا هذه المرة .اتجه إلى موعد
القدر حام ًل حقيبتة على ظهره يجهل محتوياتها،
وما إن وصل حتى بدأ في ارتداء طوق النجاة وإلقاء
جوازه في البحر وكل ما له علاقة بهويته ،وراح
بانتظار القارب الأحمر المطاطي بلون دماء شعبه
النازف بين أنياب القرش المفترسة.
------
* لعبة شعبية كانت شائعة في الريف العراقي
يمارسها كبار السن في فصل الربيع ،وتعقد بتهيئة
أربع حفر تقابلها أربع أخرى بشكل متوا ٍز ،ثم يبدأ
شخص بتوزيع حبات الحصى الإحدى والعشرين
على الحفر الثمانية بشكل فردي أو زوجي.