Page 104 - merit 49
P. 104

‫العـدد ‪49‬‬   ‫‪102‬‬

                                                     ‫يناير ‪٢٠٢3‬‬

‫طارق عباس زبارة‬

‫(اليمن‪ -‬ألمانيا)‬

‫التحول‬

   ‫عبر الزمن جاء من القرن الماضي ليرى ما يمكن‬        ‫كان جبران رج ًل بدينًا‏في الخامسة والخمسين من‬
     ‫أن تقدم له حضارة القرن الواحد والعشرين‪.‬‬          ‫عمره‪ ،‬يدفع أمامه كر ًشا متوسط الحجم‪ ،‬ومع أن‬
    ‫‏لكن الابتسامة البريئة من البنت‏الشابة حركت‬         ‫رأسه أصبح أصلع تقريبًا‪ ،‬إلا أن بقية جسمه لا‬
                                                     ‫يزال كثيف الشعر‪ ،‬يبدو أن شعره قرر يو ًما ما أن‬
 ‫هرمونات جبران‪ ،‬فقام من مكانه واتجه إلى طاولة‬        ‫يركز نموه تحت رقبته ليتيح لأعضاء جسمه فوق‬
‫البنات‪ .‬اقترب من البنت التي ابتسمت له وقال لها‪:‬‬                         ‫الرقبة أن تستنشق هواء أكثر‪.‬‬
                                                      ‫في العادة كان جبران يتناول قهوته في مقهى أبي‬
                  ‫«يا هلا يا هلا بالس َّكر والحلا»‪.‬‬  ‫عزة‪،‬‏لكنه اليوم قرر أن يذهب إلى مقهى «ميلانج»‬
‫‏نظرت إليه البنت من أعلى إلى أسفل وقالت له‪« :‬ماذا‬     ‫ليلقي نظرة على الحداثة والعولمة التي بدأت تدخل‬
                                                      ‫مدينته بخطوات خجولة‪.‬‏جلس جبران على إحدى‬
   ‫تريد يا عمو؟ أي خدمة؟» لم تعجب جبران كلمة‬
  ‫«عمو» التي أوقفت أحلام يقظته وذكرته بالواقع‬        ‫الطاولات في الزاوية يتفرج على القاعدين في المقهى‪،‬‬
 ‫المر‪ :‬أنه رجل كبير في السن مقارنة بالبنت الشابة‬       ‫استغرب من وجود الكثير من الشباب والشابات‬
 ‫التي ما زالت في سن‏المراهقة‪،‬‏ضحكت بقية البنات‬
 ‫عندما احمر وجه جبران‪،‬‏قالت إحداهن‪« :‬اذهب يا‬         ‫يجلسون م ًعا أمام الطاولات‪ ،‬البعض منهم منخرط‬
 ‫عمو في طريقك‪ ،‬ارجع إلى بيتك وزوجتك وأطفالك‬           ‫في الحديث‪ ،‬والأغلبية صامتون يكتبون بتركيز في‬
                                                       ‫هواتفهم الذكية‪ .‬لم يعتد جبران أن يرى مثل هذا‬
      ‫وأحفادك»‪.‬‏استاء جبران من كلمة «أحفادك»‬          ‫في مقهى أبي عزة الذي تسود فيه دائ ًما ضوضاء‬
  ‫وكأنها القشة التي قصمت ظهر البعير‪ .‬بدأ يتفوه‬        ‫المتحدثين وصوت التلفاز‪ ،‬والذي لا تدخله النساء‬
                                                       ‫إلا ناد ًرا‪ ،‬وذلك فقط ليلتقطن أزواجهن لتذكيرهم‬
      ‫بالكلمات البذيئة نحو البنات الشابات اللاتي‪،‬‬     ‫بأن لهم بيو ًتا وأطفا ًل في انتظارهم‪ .‬مسح جبران‬
  ‫بدورهن‪ ،‬لم يسكتن وبدأن يخرجن قامو ًسا ثقي ًل‬
  ‫أي ًضا‪ .‬اضطر نادل المقهى أن يتدخل ويفصل بين‬             ‫المحل بنظراته‪ ،‬توقف عند طاولة كانت تجلس‬
  ‫الطرفين‪ ،‬طلب النادل من جبران أن يغادر المقهى‬        ‫اليها خم ُس فتيات يافعات يتضاحكن وفي أيديهن‬
   ‫وإلا سيشبعه ضر ًبا‪.‬‏جمع جبران أشلاء كرامته‬
                                                          ‫التلفونات‪ ‬الذكية‪.‬‏ابتسم لهن ابتسامة بلهاء لا‬
   ‫واتجه إلى باب «الميلانج»‪ ،‬قبل أن يخرج استدار‬         ‫تخلو من شهوانية أزمة منتصف العمر‪ ،‬أعادت‬
   ‫وصرخ‪« :‬الرجال قوامون على النساء»‪ .‬ولكن لم‬           ‫إحدى البنات الابتسامة إليه‪ ،‬ليس بسبب فحولته‬

                              ‫يعره أحد اهتما ًما‪.‬‬          ‫ووسامته كما ظن جبران‪ ،‬بل كانت ابتسامة‬
     ‫وصل جبران إلى بيته معكر المزاج‪ ،‬بدأ يصرخ‬         ‫شفقة على هذا الرجل المسكين الذي يجلس وحده‬
 ‫على زوجته وأولاده دون أدنى سبب‪ ،‬وبعد الجدل‬            ‫على طاولته بملابسه غير المتناسقة‪ ،‬كأنه مسافر‬
  ‫والخلاف مع جميع أهل البيت‪ ،‬قرر أن يذهب إلى‬
 ‫النوم‪ .‬في طريقه إلى غرفة النوم رأى زوجته رافعة‬
   99   100   101   102   103   104   105   106   107   108   109