Page 102 - merit 49
P. 102

‫العـدد ‪49‬‬                            ‫‪100‬‬

                                                                 ‫يناير ‪٢٠٢3‬‬

‫عبير عبد الظاهر ندا‬

‫ِش ْفت مسائي‬

‫روحه وكأنه عابر سبيل‪ ،‬وماذا عني؟ لا أدري فمنذ‬      ‫لون السماء يميل للحمرة رغم اختفاء الشمس طيلة‬
     ‫لحظات الجائحة الأولى وعنقي قد ربط بساقية‬           ‫النهار خلف الغيوم‪ ،‬الطقس هذا الشتاء قارص‬
     ‫العمل‪ ،‬يقولون عنَّا جي ًشا أبيض‪ ،‬حس ٌن‪ ،‬أبيض‬       ‫كالأيام‪ ،‬لم أ َر لحظات أكثر رعبًا كالتي نعيشها‬

  ‫أو أرجواني‪ ،‬لا كلمات ولا ريشة ألوان قادرة على‬     ‫الآن‪ ،‬السماء فقط من تحنو على هلعي‪ ،‬أجلس قبيل‬
 ‫تخيل مشهد صغير في بقعة صغيرة من أي مشفى‬               ‫المغرب أمام الشرفة أتأمل أسراب الحمام وهي‬
                                                        ‫تغدو وتروح في سلاسة‪ ،‬أحيا ًنا أشعر وكأنها‬
                                        ‫بالعالم‪.‬‬         ‫تخرج ألسنتها للبشر المختفين خلف الحوائط‬
    ‫الغرف ممتلأة‪ ،‬وصوت تدفق الأكسوجين يملأ‬                ‫والنوافذ‪ ،‬وتنطق‪ :‬نحن أحرار وأنتم حبيسو‬

      ‫المكان‪ ،‬عند دخولي القسم رأيت طبيب الرعاية‬    ‫الخوف‪ ،‬الهاتف مرة أخرى يطلق صيحاته‪ ،‬لا تفوت‬
‫المركزة يهرول نحو قسم الرعاية‪ ،‬فالأغلب أن هناك‬     ‫دقيقة إلا وهلعني صياحه وأعلن عن إصابة جديدة‪،‬‬

   ‫حالة في حالة حرجة‪ ،‬بدأت مروري على المرضى‪،‬‬           ‫إنسان جديد يضاف إلى التعداد اليومي لمصابي‬
  ‫ما بين شاب عشريني وكهل‪ ،‬سيدة شاب شعرها‬              ‫الكورونا‪ ،‬رئة جديدة تأ ُّن‪ ،‬خوف جديد ُيق َذ ُف في‬
 ‫وفتاة تحارب ملامحها الجميلة براثن موت أسود‪..‬‬         ‫بحر الإنسانية‪ ،‬أمسكت به حتى يهدأ لكنها كانت‬
 ‫الكل سواسية‪ ،‬وكما قال درويش‪ :‬الموتى سواسي ٌة‬         ‫رسالة مختلفة من زميلة قديمة!! فأي ريح طيبة‬
                                                      ‫أو غير ذلك أتت بها إلى أرضي بعد سنوات هجر‬
    ‫أمام الموت‪ ،‬ما هذا؟ وفيم أفكر الآن؟ ستتحسن‬        ‫وتنا ٍس‪ ،‬قررت ألا أفتح الرسالة‪ ،‬فلا عذر مقبول‬
  ‫أمورهم ويرون الشمس من جديد ولو بعد حين‪،‬‬          ‫على قطيعة متعمدة ولا ذنب مغفور بعد ما خلَّف من‬

    ‫رأيت في التلفاز مساء أمس كم بذل فريق طبي‬                                                  ‫أذى‪.‬‬
     ‫جه ًدا كبي ًرا لإخراج مريض تحت السماء ليرى‬    ‫السابعة مسا ًء والقهوة في يدي‪ ،‬وكان عليَّ الإسراع‬
                                                   ‫للذهاب إلى المشفى وموعد الشفت المسائي قد حان‪،‬‬
                   ‫الشمس‪ ،‬كم كانت نعمة غائبة‪.‬‬
‫ها هي فاطمة الطالبة بالجامعة أشرق وجهها‪ ،‬ألقيت‬          ‫كنت وحدي في الطريق فحظر التجوال قد خيم‬
                                                    ‫على العاصمة‪ ،‬والشوارع في هدوء يسبق العاصفة‪،‬‬
    ‫عليها التحية وانتابتني السعادة لتحسن حالتها‬      ‫المشفى صاخب لا مكان يخلو من آهه أو بكاء‪ ،‬لله‬
 ‫بعد مرورها بفترات حرجة‪ ،‬تلتها الحاجة نادية لم‬     ‫في خلقه شؤون‪ ،‬شيء لا ُيري بالعين المجردة ُيجرد‬

    ‫تستطع رد السلام ولا الابتسام كعادتها‪ ،‬معدل‬        ‫العالم من سلامه‪ ،‬عام كامل والفوضى عواصف‬
  ‫تنفسها أصبح أعلى من الطبيعي‪ ،‬وكان عليَّ إبلاغ‬     ‫تضرب كل البلدان‪ ،‬تقتل من تقتل وتترك من تترك‬
 ‫طبيب الرعاية‪ ،‬أسرعت نحو قسم الرعاية فوجدت‬         ‫دون منطق‪ ،‬كل واحد يقف وينتظر دوره‪ ،‬إرادة الله‬
 ‫رجلين واقفين أمام الطبيب‪ ،‬الأصغر يبكي ويرجو‬
                                                     ‫إذن‪ ،‬ناس تبدل حالها للأسوأ والبعض قد صفت‬
     ‫الطبيب أن يري أمه قبل نزولها ثلاجة الموتى‪،‬‬
  ‫والأخر بدا عليه الجمود‪ ،‬أسكت الشاب وطلب من‬
  ‫الطبيب رؤية زوجته‪ ،‬وأخذ السلسلة الذهبية التي‬
   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106   107