Page 102 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 102

‫العـدد ‪33‬‬   ‫‪100‬‬

                                                    ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

‫صابر رشدي‬

‫ديالكتيك‬

    ‫اللحظات‪ ،‬فاقتربت من النافذة بحذر‪ ،‬ربما كنت‬                                       ‫‪ -‬إنه الخوف‪.‬‬
   ‫واه ًما‪ ،‬أو مستغر ًقا في بقايا يقظة خاملة‪ ،‬نظرت‬                    ‫= لكنه يزول مع مرور الوقت‪.‬‬
  ‫جي ًدا‪ ،‬وجدتهما‪ ،‬المرأة والرجل‪ ،‬قادمين من بعيد‪،‬‬
  ‫يدبان فوق الأرض بخطوات بطيئة ومتمهلة‪ ،‬على‬                                            ‫‪ -‬إنه الفقر‪.‬‬
                                                                   ‫= لا يهم مادام مصحو ًبا بالستر‪.‬‬
                              ‫هذا الإيقاع الباكي‪.‬‬
     ‫وفي استكمال واقعي للحلم‪ ،‬بعي ًدا عن الهذيان‪،‬‬                                   ‫‪ -‬إنه الطاعون‪.‬‬
    ‫راحت الأمور تتضح وهما يقتربان‪ .‬كانت المرأة‬                                    ‫= لا داء بلا دواء‪.‬‬
‫تنتحب في صمت‪ ،‬والرجل يتطلع إلى الطريق بنظرة‬
 ‫متشائمة‪ ،‬لم يكن أمامي سوى حبس أنفاسي أثناء‬                                            ‫‪ -‬إنه القهر‪.‬‬
‫مرورهما تحت نافذتي؛ حتى لا يشعرا بي‪ ،‬وتفسد‬                               ‫= رحمته وسعت كل شيء‪.‬‬
    ‫الرؤية بأكملها‪ .‬كان السكون شام ًل‪ ،‬لا يجرحه‬            ‫‪ -‬لن أدعه يتجرع كل هذه العذابات وحده‪.‬‬
  ‫إلا صوت الطفل الذي صار خفي ًضا‪ ،‬مجه ًدا‪ .‬كنت‬
     ‫أراقبهما متسائ ًل‪ :‬أين ستقودهما تلك الخطى؟‬                                ‫= أنت لا تقرأ الغيب‪.‬‬
‫فكرت في النزول‪ ،‬واقتفاء أثرهما‪ ،‬خو ًفا من المصير‬       ‫كان الحوار يتنامى حول هذه المعاني بين رجل‬
‫المظلم الذي أراده الرجل‪ ،‬مستحض ًرا بع ًضا من هذه‬    ‫وامرأة‪ ،‬يتدثران بملابس عادية‪ ،‬ملامحهما المرهقة‬
   ‫المناظرة‪ ،‬حيث كنت أحاول الاحتفاظ بها حية في‬
 ‫ذاكرتي‪ ،‬فقد كانت تدور في نسق غير عادي يقوم‬                          ‫تتوجع تحت ثقل ذكريات أليمة‪.‬‬
                                                    ‫المرأة‪ .‬تحمل طف ًل صغي ًرا‪ ،‬تدافع بقوة عن وجوده‪.‬‬
               ‫على الدحض القوي والآراء المذهلة‪.‬‬
  ‫بلا نية للتراجع‪ ،‬كانا يواصلان السير في إصرار‬         ‫الرجل‪ .‬يحاول اقتلاعه من بين يديها‪ ،‬راجيًا ألا‬
‫قدري‪ ،‬حتى تو َّقفا أمام أحد البيوت المجاورة‪ ،‬أشار‬      ‫تمانعه‪ ،‬فالأشياء من وجهة نظره فقدت طابعها‬
 ‫الرجل بعدها إلى الباب‪ ،‬فاستجابت المرأة ووضعت‬
 ‫الطفل وفق رغبته‪ ،‬ثم واصلا السير مرة أخرى‪ ،‬لا‬                                               ‫الطيب‪.‬‬
                                                          ‫كانا يتجادلان وسط غيمة كبيرة‪ ،‬في مسائل‬
                               ‫يلويان على شيء‪.‬‬          ‫جوهرية‪ ،‬على نحو فلسفي عميق‪ .‬المرأة تتحلى‬
     ‫بدأت الشكوك تساورني‪ .‬عدت مرة أخرى إلى‬              ‫بالصبر‪ ،‬وتمتلك اليقين‪ .‬الرجل ميال إلى الشك‬
   ‫المحاورة‪ .‬لم أجد ما يثبت أن هناك علاقة عابرة‪،‬‬          ‫والعدم‪ ،‬بدا ذلك واض ًحا مع تصاعد الحوار‪،‬‬
 ‫وأن ملامحهما لم تكن موسومة بعلامات الخطيئة‪،‬‬              ‫ودخوله مناطق أخرى‪ ،‬أكثر صعوبة وأقرب‬
       ‫رغم البؤس البادي عليهما‪ .‬لكني توقفت عن‬             ‫إلى الإبهام‪ ،‬أفكار كانت تتجاوز حدود عقلي‬
‫التماس الأعذار لهما‪ ،‬عندما فوجئت بظهور عدد من‬         ‫وقدرتي على الفهم‪ .‬حتى أخذ الطفل يبكي مغطيًا‬
  ‫الكائنات الشائهة واحتلالها المكان في لمح البصر‪.‬‬     ‫بصراخه هذا الديالوج العسير‪ ،‬بكاء أيقظني من‬
     ‫شعرت بالغضب وأنا أراها تقترب من الطفل‪،‬‬           ‫نومي العميق‪ ،‬وأنا أحاول تذكر الكلمات الأخيرة‬
‫وندمت على عدم نزولي لإنقاذه من بين أيديهما قبل‬       ‫المتناثرة من هذا النقاش الرفيع‪ ،‬ظل الطفل يبكي‪،‬‬
                                                     ‫كان بكاؤه قاد ًما من الشارع في هذه المرة‪ .‬صو ًتا‬
                                                      ‫حقيقيًّا‪ ،‬خارج حلمي‪ ،‬استطعت التقاطه بسهولة‪،‬‬
                                                     ‫وهو يتصاعد بإلحاح متواصل يجوس في سكون‬
                                                       ‫الليل‪ ،‬مقتح ًما وعيي الذي بدأ في الإفاقة في هذه‬
   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106   107