Page 99 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 99
97 إبداع ومبدعون
قصــة
*** كانت تزورني أثناء الليل ،فصوتها يبكي ويضحك،
وربما ينسج الحكايات أي ًضا ،لكن ذلك لم يدم
أنهي ُت السنة الدراسية الأخيرة ،رفضت العمل
بالجامعة مدر ًسا نظر ًّيا ،أعيد على مسامع طلابي طوي ًل ،عادت الأصوات مرة أخرى إلى مسامعي ،بل
ما اخترعه غيري ،جوليو ومدام كوري وأينشتاين. تطور الأمر وأصبح ُت أرى صاحب الصوت متجس ًدا
تخرجت في مدرسة الطب ولا يشغلني إلا شيء
واحد ،حلم وهاجس ُملح ،معمل كبير لا يشبهه أمامي ،بشحمه ولحمه ،كأني أداة لاستجلابه من
أي معمل آخر في العاصمة ،وهل نحلم إلا من أجل مكامنه البعيدة.
مجيء اليوم الذي تتحقق فيه أحلامنا؟ كانت أموال
الغنمات لا تزال تتوالد في البنك ،ولما فقد ُت الأمل ***
في عودة أمي جمع ُت نصيبها مع أموالي ،وأصبح
ما تركه أبي كله نصيبي ،تتكاثر فوائده كل طلعة ثم كانت السنة الأولى لي في مدرسة الطب ،لم
يتركني الجزء الذي ورثته عن أبي في محبة الطبيعة،
شمس.
عملت شهرين متواصلين على تجهيز المعمل الذي لكنه لم يرتبط بالبرية في شكلها العشوائي ،رعي
يتشكل تصميمه في رأسي ،استحالت الخربشات على غنم أو تجوال في الأرض بلا هدف واضح ،فذلك
الورق إلى واقع ،لا أود أن أشتري أر ًضا وأضيع من سيسلمني مثل أبي إلى الشكوك والحيرة ،قرر ُت أن
عمري عامين أو ثلاثة في بنائها وتجهيزها ،اشتريت أبيع الغنمات كلها ،احتفظ ُت لأمي بنصيبها وأخذ ُت
بيتا قدي ًما ودهنته ،جعلت الدور الأرضي للمعيشة نصيبي ،لم أفكر في مشاريع تجارية تستهلك سنوات
والعلوي أزلت جدرانه الفاصلة بين الغرف فأصبح عمري وتبدد أفكاري ،بل استحالت محبة الطبيعة
داخلي إلى محاولات متكررة للفهم ،فهم التفاصيل
غرفة واحدة كبيرة ،في موقع مميز صنع ُت ر ًّفا التي لا تكاد ُترى ،فقد استطاع «جوليو كوري»
للكمان ،كماني المُزيل للتوتر ،آلتي مغربلة الأصوات،
الفلتر الذي ينقي رأسي ويغير في رئت َّي طعم الهواء، وزوجته إثبات أن الذرة نظام شمسي متكامل،
ثم طاولة كبيرة ج ًّدا عليها أجهزة حديثة لقياس كل فالنواة تدور حولها إلكترونات تشبه دوران الأرض
الأشياء. حول الشمس ،كما أثبت جوليو أي ًضا إمكانية خلق
كان شعاع أحمر و َّهاج قد انطلق أثناء سرحاني، عناصر ُمشعة لم تكن معروفة من قبل.
رأيت فيه وجه أبي ،لا ،سمع ُت صوته ،كان سماع
أصوات أشخاص نعرفهم أم ًرا ليس صعبًا ،لكن كيف ضعفاء العقول فقط هم الذين يقفون أمام الحقائق
سأستدعي صوت جدي ،وأبيه ،وجده ،وسابع َجدة، على أنها معجزات ،وأنها لن تتكرر ،تصور ُت أنه
وتاسع خال ،كانت الشبكة الإنسانية ُمعقدة لأقصى
بمقدوري صناعة شيء ما من خلال الصوت وحده،
درجة. فكرت أن أكتب بحثًا مط ّو ًل ينشر في المجلة العلمية،
أصبح الصمت الخارجي يصخب بداخلي ،يصنع
أصواته وتفاعلاته ،ورغبتي في الكلام تقل شيئًا أثبت من خلاله وجهة نظري في إمكانية استغلال
فشيئًا .قالت الحكايات إن جدي لأمي عقله خ َّف الصوت منفص ًل عن أصحابه ،فالمياة ُتولِّد الكهرباء،
بسبب صمته الطويل وإدامة النظر لأشياء تافهة ،بعد
صمته لسنة كاملة تدفق من فمه شلال كلمات غير والشمس ُتعبأ و ُتخزن منها الطاقة ،لماذا لا تكون
مترابطة ،هرب ْت منه ابنته وجاءت إلى العاصمة لتعمل حركة الإنسان فوق الأرض مرتبطة بطاقة ما
خادمة قبل أن يتزوجها أبي ،هجس ُت من ملاقاة
المصير نفسه ولو بعد حين ،خف ُت من الوحدة ،لا يمكن أن ُتستغل ،كحركة السيارات فوق المطبات،
أريد الزواج الآن ،لا أفكر فيه أص ًل ،لا وقت لد َّي ولا والصوت أي ًضا ،الصوت الإنساني الذي يسيل في
حروف وكلمات ،ضحكات وآهات واستغاثات ،أبي،
بشكل يومي أسمع صوته ،وأحيا ًنا أسمعه أكثر من
مرة خلال اليوم الواحد ،وماذا بعد يا بيرلسكوف؟
شجعني سماع اسمي بتلك النبرة الحماسية،
وصر ُت متيقنًا بأنني سأفعل شيئًا جدي ًدا ،ومختل ًفا
تما ًما.