Page 94 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 94

‫العـدد ‪33‬‬   ‫‪92‬‬

                                                        ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

  ‫كلام فارغ يتفوه به طفل‪ ،‬أخذ ُت أستدعي أحلامي‬              ‫ظهره في زهو‪ ،‬وأنا أتبعه‪ ،‬عبرنا الدرج الرخامي‬
  ‫مع أقراني عن الدير‪ ،‬قبعة الراهب المليئة بعصافير‬          ‫للدير المنحوت في قلب الجبل‪ ،‬لم يكن الفرق كبي ًرا‬
  ‫بيضاء مرفرفة‪ ،‬كل عصفور سيأخذ طف ًل منا على‬               ‫بين الكنائس والمساجد‪ ،‬الشعار المرفوع في الجزء‬

     ‫جناحيه الصغيرين‪ ،‬لا داعي للخوف‪ ،‬ستحملنا‬                      ‫العلوي فقط هو الذي يو ّضح هوية المبنى‪.‬‬
 ‫أسراب الطيور جماعات إلى روح المُخلّص في السماء‬            ‫داخلني إحساس بأن أروا ًحا معينة تحيط بالمكان‪،‬‬
  ‫السابعة‪ ،‬سنراه للمرة الأولى رأي العين‪ ،‬من حوله‬            ‫لم يكن لد ّي في هذه السن المقدرة على وصف ما‬
  ‫تلف فتيات بأنوف صغيرة ووجوه بيضاء كاللبن‪.‬‬               ‫أشعر به‪ .‬م َّد أبي يده ل ِقس منز ٍو في الركن‪ ،‬كان له‬
                                                         ‫وجه أنثوي ويدان بيضاوان‪ ،‬ما إن رآنا حتى وقف‬
     ‫يأخذني صوت ال ِقس من أحلام يقظتي‪ ،‬ويو ِّجه‬          ‫استعدا ًدا لاستقبالنا‪ ،‬لكنه قال كلا ًما جعلني أخاف‪،‬‬
  ‫كلماته لأبي‪ :‬خذ ابنك واهربا من هنا‪ ،‬لم يعد هناك‬
‫من نصلي من أجله‪ ،‬الألمان قادمون‪ ،‬قتلوا من الروس‬                                            ‫أخاف بشدة‪.‬‬
  ‫مليونين خلال أقل من عام‪ .‬لو وصلوا إلى هنا‪ ،‬لن‬            ‫اقترب ال ِقس منا وهو يلوح بحامل الإنجيل‪ ،‬نحاه‬
                                                          ‫جانبًا ورفع سلتين كبيرتين فارغتين وقال‪ :‬لم يعد‬
     ‫يكون أمامي إلا الاعتراف بهتلر مسي ًحا جدي ًدا‪.‬‬     ‫لدينا خزين طعام‪ ،‬السكر ش َّح فلم نعد نصنع أطباق‬
 ‫كان الرجل يقول كلا ًما غريبًا‪ ،‬لم أمش نصف ساعة‬            ‫الحلوى للأطفال‪ ،‬نظر إل َّي وابتسم‪ ،‬ألقى بالسلتين‬
  ‫لأسمع معلومات عن هتلر‪ ،‬ذلك القصير الذي يقف‬             ‫فوق أجولة علف مفتوحة شبه فارغة‪ ،‬تركنا وخرج‬
                                                        ‫يبحث عن شيء‪ ،‬وفجأة وجدناه يقول‪ :‬ها أنت تعال‪،‬‬
                ‫شاربه فوق شفته على شكل نحلة‪.‬‬              ‫يجب أن تحمد الرب على أننا لم نضطر لأكلك بعد‪،‬‬
‫ما جئ ُت لألقي سلا ًما‪ ،‬بل باحثًا عن نور‪ ،‬عن مسيح‪،‬‬        ‫ثم سحب جح ًشا هزي ًل وربطه في وتد أمام الدير‪،‬‬

                                       ‫مسيحي‪.‬‬                ‫جلس فوق مقعد أسمنتي بجوار البوابة الكبيرة‬
   ‫جذبني أبي إلى الخارج‪ ،‬وأنا أشد يدي منه لأبقى‬              ‫ورفع زجاجة فارغة بين أصابعه وتذكر شيئًا‪:‬‬
    ‫بالداخل‪ ،‬لكنه ينتصر في النهاية‪ ،‬كان أقوى مني‬            ‫لا توجد رشفة عرقي واحدة‪ ،‬لم يحدث هذا منذ‬
‫بكثير‪ ،‬خرجنا وأخذت أتأمل ال ِقباب العالية من بعيد‪،‬‬      ‫الحرب الأهلية التي أكل فيها الناس الفئران والحمير‪،‬‬
‫وقبل أن َتثبت صورتها في رأسي لمحنا فانو ًسا يقف‬          ‫صدقني يا ولدي‪ ،‬زمن الرخاء و َّل‪ ،‬وأعتقد بأنه لن‬
  ‫وحده في الظلام ويطلع منه صوت‪ :‬مسيح! عن أي‬               ‫يعود‪ ،‬سيصبح كل منا مسي ًحا مصلو ًبا من جديد‪،‬‬
 ‫مسيح تتحدثان؟! لقد قتل هتلر عائلتي كلها‪ ،‬لم يكن‬
     ‫يعرفني ولا يعرف أح ًدا من عائلتي‪ ،‬لكن هذا لم‬                                         ‫لكن بلا أتباع‪.‬‬
‫يمنعه من قتلنا جمي ًعا‪ ،‬لقد قتلني معهم‪ ،‬الذي يتحدث‬
                                                                        ‫***‬
      ‫إليكم الآن هو ُهلام‪ ،‬هلام والله‪ ،‬شبح بقي من‬
   ‫أنقاض الحياة لا يوجد هنا طلبكما‪ ،‬لا يوجد عندنا‬       ‫عقد ال ِقس يديه فوق بطنه واقترب مني مبتس ًما‪ ،‬نزل‬
    ‫رب‪ ،‬ابحثا عنه في مكان آخر‪ ،‬وقريبًا‪ ،‬قريبًا ج ًّدا‪،‬‬     ‫إلى مستوى طولي وأمسك ذراع َّي‪ :‬ولدي الحبيب‪،‬‬
                                                           ‫ما الذي أنزل القمر من السماء؟ كان يقصدني أنا‬
                 ‫سيصبح الدير كله مخز ًنا لل ِغلال‪.‬‬         ‫بسؤاله‪ ،‬فقال أبي‪ :‬هذا الولد يريد أن يصلي‪ ،‬ق َّرب‬
                                                             ‫ال ِقس فانوسه من وجهي حتى شعرت بالدفء‬
                ‫***‬                                         ‫ورأي ُت أنف أبينا يكبر فجأة‪ :‬تصلي؟ لمن ستصلي‬
                                                           ‫يا ولدي الجميل؟ بانت في وجهه الأبيض شرايين‬
‫خرجنا ونحن نبحث عن موضع لأقدامنا‪ ،‬كان الظلام‬                ‫صغيرة يمكنني أن ألحظ نفورها‪ ،‬بسبب اقتراب‬
   ‫دام ًسا‪ ،‬لا توجد في الشوارع فوانيس‪ ،‬وأغلب من‬           ‫أنفاسه الحارة من فمي لم أتمكن من الرد‪ ،‬تلعثمت‬
  ‫أعرفهم ينامون داخل سراديب المخابئ الأسمنتية‪،‬‬
   ‫التي انتشرت في الشوارع والمدارس والمصانع‪ ،‬لم‬          ‫الكلمات فوق لساني وارتبك ُت‪ ،‬أحسس ُت بأنها رغبة‬
   ‫أر أي ضوء إلا فانوس ال ِقس البعيد‪ ،‬فرغم كلماته‬             ‫وهمية في التعبير حتى قبل أن أنطق بها‪ ،‬فتات‬
         ‫الغريبة‪ ،‬ظل هو النور الوحيد الذي أتذكره‪.‬‬

 ‫كان أبي يتحدث مع أصدقائه كثي ًرا عن حرب كبيرة‬
   89   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99