Page 91 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 91

‫‪89‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

    ‫يدها وأخرجت مسابحها الكثيرة ومعها كتاب متهرئ‬                                          ‫ابتسمت قبل أن أجيبها‪:‬‬
                           ‫الغلاف وقدمته لي قائلة‪:‬‬                               ‫‪ -‬لم أعرف لك اهتما ًما به من قبل!‬
                                                              ‫وكأنني بجملتي العابرة قد تعمدت وضع الملح على جرحها‬
                     ‫أقرأ بداية من الصفحة التاسعة‪.‬‬                               ‫النازف فقد صاحت في غضب حاد‪:‬‬
   ‫تناولت الكتاب متأف ًفا‪ ،‬كان رواية المسيخ الدجال‪ ،‬رأيت‬           ‫‪ -‬لا أكره منك شيئًا قدر كرهي لإجابتك عن السؤال‬
   ‫في أولى صفحاتها سطو ًرا مكتوبة بقلم رصاص تقول‪:‬‬               ‫بسؤال‪ ،‬كف عن هذه الطريقة السخيفة ولو هذه الساعة‬
                                                                  ‫فقط‪ ،‬أرجوك‪ ،‬أعصابي لم تعد تحتمل مثل هذا العبث‪.‬‬
     ‫«للذكرى‪ ..‬مستشفى حميات إمبابة‪ /‬حجرة ‪ 8‬الدور‬                 ‫انكمشت في نفسي معتذ ًرا عن عبثي الذي لم أقصده ثم‬
               ‫الثاني‪ /‬الممرضة جميلة واسمها رانيا»‪.‬‬
               ‫طفت ابتسامة على وجهي فصاحت أمل‪:‬‬                                                           ‫قلت‪:‬‬
                                                               ‫‪ -‬مصطفى محمود عندي هو نوع من أنيس منصور‪ ،‬هذا‬
   ‫‪ -‬قلت لك اقرأ‪ ،‬يعني اقرأ لي بصوت أسمعه‪ ،‬بداية من‬
                       ‫الصفحة التاسعة‪ ،‬تفضل اقرأ!‬                                   ‫إن كن ِت تعرفين أنيس منصور‪.‬‬
                                                                                               ‫ردت بنفاد صبر‪:‬‬
     ‫وضعت على عيني نظارة القراءة وبدأت أقرأ‪« :‬مضت‬
  ‫على الرجل عشرون سنة وهو يتعبد الله في صومعة عند‬                ‫‪ -‬أعرفه وقد قرأت له شيئًا من كتاباته‪ ،‬ولكن لا أعرف‬
   ‫رأس الجبل‪ ،‬حتى اشتهر في القرية بأنه الرجل المبارك‪،‬‬                     ‫ماذا تقصد بجملة «نوع من أنيس منصور»!‬
  ‫وكان أهل القرية البسطاء يصعدون له بالطعام ويقبلون‬                                                    ‫أجبتها‪:‬‬
  ‫يده‪ ،‬ويأخذون منه العهد ويحملون له المرضى ليشفيهم‬
                                                              ‫‪ -‬أعني كأن أنيس منصور جنس قائم بذاته‪ ،‬وتحته تندرج‬
                              ‫والأطفال ليدعو لهم‪.‬‬                  ‫أنواع من ال ُكتّاب‪ ،‬نوع منهم اسمه مصطفى محمود‪،‬‬
    ‫ولكن الله كان يعلم أن هذا الرجل فاسق برغم صلاته‬
     ‫وصومه وعبادته‪ ،‬وأنه يحب الدنيا حب العبادة برغم‬            ‫ويجمع بين الجنس وأنواعه‪ ،‬جوامع كثيرة‪ ،‬منها الشهرة‬
‫عزوفه الظاهر عنها‪ ،‬فما صعدت إليه امرأة بطعام إلا تطلع‬          ‫الواسعة‪ ،‬النفوذ الضخم‪ ،‬المبيعات المليونية‪ ،‬غزارة الإنتاج‪،‬‬
‫إلى ساقيها‪ ،‬وخالس النظر على تكوير ثديها وتدوير ردفها‬          ‫التأثير الكبير‪ ،‬ثم في المحصلة النهائية لن تحصدي من ذلك‬
 ‫وبياض نحرها واحمرار ثغرها ودموية خدها‪ ،‬وما سجد‬
     ‫بعد ذلك إلا وتراءت له المرأة في ال ِقبلة‪ ،‬وما رقد لينام‬                    ‫الجنس سوى الخواء التام والكامل‪.‬‬
   ‫إلا احتلم بها وضاجعها حتى قضى منها الوطر وشفى‬                                    ‫زفرت زفرة الساخط وسألتني‪:‬‬

                                         ‫الغليل»‪.‬‬                 ‫‪ -‬هل قرأت رواية مصطفى محمود «المسيخ الدجال»؟‬
      ‫فجأة وبسرعة البرق‪ ،‬مدت أمل يدها وانتزعت مني‬                                                      ‫أجبتها‪:‬‬
     ‫الرواية‪ ،‬ووقفت وهي تسلط عينيها على عين ّي وقالت‪:‬‬
     ‫‪ -‬هذا المقطع هو رعبي‪ ،‬هذا المقطع يفضحني أنا‪ ،‬أنا‬              ‫‪ -‬طالعتها منذ زمن بعيد‪ ،‬ولم أعد أتذكر منها سوى‬
  ‫المسيخة الدجالة‪ ،‬هناك رجل أرعن وديع لم يورط نفسه‬                    ‫ركاكتها وسعيها الفاشل في تقليد رسالة الغفران‬
‫معي‪ ،‬يقطع عليّ ذكري وتسبيحي‪ ،‬أركع فيجثو على ركبتيه‬                                            ‫والكوميديا الإلهية‪.‬‬
  ‫ويتلقف نهد ّي بين يديه‪ ،‬أسجد فيأتيني من خلفي‪ ،‬أهب‬                        ‫تقلص وجهها بعلامة خيبة الأمل ثم قالت‪:‬‬
                                                                                              ‫‪ -‬أعطني سيجارة‪.‬‬
                     ‫واقفة فيطرحني أر ًضا ويعلوني‪.‬‬                                                ‫رددت بضيق‪:‬‬
 ‫كان وجهها كتخيلي لوجه أمنا الغولة‪ ،‬كان صوتها يتعذب‬                         ‫‪ -‬قبل قليل قل ِت إنك أقلع ِت عن التدخين‪.‬‬
 ‫وهي تتكلم‪ ،‬كانت أنفاسها تتقطع‪ ،‬وكان الزبد يتطاير من‬                                                ‫ردت بحدة‪:‬‬
                                                                                            ‫‪ -‬قررت العودة إليه‪.‬‬
   ‫فمها ويسقط قريبًا من وجهي‪ ،‬سكتت فجأة‪ ،‬ثم قذفت‬
                         ‫مرآة خلف ظهري بالرواية‪.‬‬               ‫قدمت إليها السيجارة وبحث ْت هي بعينيها عن ولاعة فوق‬
                                                                  ‫المكتب فوجدتها وأشعلت سيجارتها ونفثت دخانها في‬
‫عندما استفقت كانت قد غادرت الغرفة‪ ،‬حاولت اللحاق بها‪،‬‬                           ‫وجهي‪ ،‬ثم قالت بنبرة صوتها القديم‪:‬‬
               ‫ولكن كأن الأرض قد انشقت وابتلعتها‪.‬‬                ‫‪ -‬مصطفى محمود الذي لا يعجبك كتب رواية حياتي‪،‬‬
                                                                                     ‫كتبها لي أنا على وجه التحديد‪.‬‬

                                                               ‫سكت ولم أعلق‪ ،‬فانتهزت فرصة سكوتي وتناولت حقيبة‬
   86   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96