Page 95 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 95

‫‪93‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

   ‫فيعزف الناي ويغني من أجلها‪ ،‬يضع أصابعه في‬             ‫تدور بين جميع الناس في كل ركن من العالم‪ ،‬يقول‬
‫فمه ويص ّفر‪ ،‬مثلما كان يفعل في مرحلة مراهقته‪ ،‬لم‬            ‫إن الملايين بالفعل قد ُقتلوا‪ ،‬وبسبب هذه الأخبار‬
  ‫يساعده استعادة الصوت على استعادة الإحساس‪،‬‬                   ‫كنت أنقبض أثناء الليل‪ ،‬وسمعت للمرة الأولى‬
‫صعد إلى الجبل مرة أخرى‪ ،‬الجبل نفسه الذي هوت‬
‫من فوقه عصاته‪ ،‬صولجان الرعاة الفقراء‪ ،‬كان أكثر‬          ‫أصوات الأموات‪ ،‬ربما تخيل ُت صو ًرا في بادئ الأمر‪،‬‬
 ‫تهذ ًبا هذه المرة وهو يناجي ربه‪ ،‬أخذ صوته يتهدج‬            ‫تأكد ُت بعد ذلك أنني أستمع بالفعل إلى صرخات‬
                                                          ‫وضحكات أشخاص تركوا الدنيا‪ ،‬لكن ليس بشكل‬
   ‫وهو يكلمه‪ ،‬قال له‪ :‬أرجعني راعيًا لإحدى عشرة‬                                                    ‫كامل‪.‬‬
‫غنمة كما كنت‪ ،‬ثم دعني أنطلق في البرية‪ ،‬وأنا كفيل‬                     ‫«ألا ترى معي أن هذا الرجل ُمهرج؟»‪.‬‬
 ‫باكتشاف الحياة‪ ،‬حياتي‪ .‬قال لي وهو لامع العينين‬            ‫صوت أبي يأخذني من سرحاني‪ ،‬أهز رأسي ولا‬
                                                           ‫أتكلم‪ ،‬فيطرح الموضوع بطريقة أخرى‪ :‬نحن نأكل‬
   ‫ذاه ًل‪ ،‬ترقرقت مقلتيه بسائل شفاف ومرعب‪ :‬لم‬
 ‫يستمع إل ّي الرب‪ ،‬أغلق أذنيه أمام كلماتي‪ ،‬كأن لديه‬      ‫ونشرب ونحمد الرب ك ٌّل بطريقته‪ .‬لا داعي لوجود‬
 ‫ساعة صفاء واحدة ممنوحة وس ُيغلق بعدها الباب‪.‬‬                     ‫هؤلاء المهرجين في حياتنا يا بيرلسكوف‪.‬‬

              ‫عاد يقول لي ولا أجد ر ًّدا على كلماته‪.‬‬        ‫مررنا ببيت نصفه مهدم ونصفه الآخر مهجور‪،‬‬
    ‫بدأت زوجته الأولى‪ ،‬أم البنات الثلاث‪ ،‬ابنة عمه‪،‬‬          ‫ربما فرقعت فيه قنبلة أمر هتلر بإلقائها‪ ،‬انحنى‬
  ‫تغلق بابها هي الأخرى في وجهه‪ ،‬فقد ف َّضل عليها‬              ‫أبي والتقط من الأرض نبتة صغيرة طالعة من‬
‫الخادمة التي هي أمي‪ ،‬ليس هذا فحسب‪ ،‬فقد أنجبت‬              ‫تحت الأنقاض‪ ،‬مد يده إل ّي بها‪ :‬هل تحتاج هذه إلى‬
                                                          ‫كهنة كي تنبت؟ قال ثم رماها فوق الأطلال المهدمة‬
                               ‫له الخادمة الولد‪.‬‬
   ‫بعد أن أُغلِقت جميع الأبواب في وجه أبي انتابني‬                                       ‫وأشعل سيجارة‪.‬‬
‫إحساس غريب‪ ،‬لم أعد أشعر بانجذاب نحوه‪ ،‬تمني ُت‬              ‫غذى أبي فكرة لا تزال بقاياها مترسبة في رأسي‬
    ‫أن أهمله ولا أعرف لماذا‪ ،‬حتى الدروس التي كنا‬          ‫حتى الآن‪ :‬اعتمد فقط على عقلك‪ ،‬فالسنوات القادمة‬
‫نستذكرها م ًعا‪ ،‬لم تعد لد ّي رغبة في أن يشرحها لي‪،‬‬        ‫حالكة السواد‪ ،‬من ُيسلِّم فيها ذقنه لأوهام الحالمين‬
   ‫صر ُت أنا الآخر جز ًءا من غضب الرب عليه دون‬              ‫سيندم أشد الندم‪ .‬منذ ذلك الحين أعدد ُت نفسي‬
‫أن أدري‪ ،‬لم أتعاطف مع ضعفه وتأنيبه لنفسه بهذا‬             ‫لحياة عقلية صرفة‪ ،‬أعتمد فيها على نفسي في فهم‬
‫الشكل الدائم‪ ،‬فضل ُت استحضار صورته عندما كان‬            ‫كل شيء‪ ،‬وأبي سيساندني بخبرة سنواته الأربعين‪،‬‬
 ‫قو ًّيا لا يهاب قسوة الحياة‪ ،‬الآن‪ ،‬أصبح كائنًا ه ًّشا‬     ‫ومعلوماته الكثيرة عن الحرب‪ ،‬لكن ما حدث لأبي‬
                                                           ‫بعد سنوات قليلة كان غريبًا‪ ،‬فقبل أن ُيكمل عامه‬
                        ‫يكاد الشك أن يعصف به‪.‬‬              ‫الخامس والأربعين أصيب بمرض غريب‪ ،‬على حد‬
 ‫نقص وزنه كثي ًرا و َش َحب‪ ،‬أصبح ْت بشرته مصف ّرة‬       ‫علمي‪ ،‬لم يصب به أحد من قبله‪ ،‬ولم ُيعرف له علاج‪.‬‬
 ‫وبدنه سقي ًما ووجنتاه غائرتين ولم يعد يتمتع بأي‬
‫حيوية تذكر‪ ،‬كلما أمسك بيدي انتفض ُت‪ ،‬كان يخجل‬                           ‫***‬
‫من تلك الحركة‪ ،‬فيسحب يده من بين أصابعي دون‬
                                                            ‫كن ُت كلما أجلس بجواره أراه مغمو ًما‪ ،‬ليس ذلك‬
                                          ‫كلام‪.‬‬           ‫الغم الذي يمكن أن يحدثني عن سببه‪ ،‬لكنه انطواء‬
   ‫لم يعد لأبي في الدنيا ِسوى أمي‪ ،‬الخادمة‪ ،‬كانت‬         ‫بشكل عام‪ ،‬حزن‪ ،‬انتظار عقاب لا يأتي‪ ،‬كان متأك ًدا‬
 ‫دائ ًما تستيقظ قبل الفجر لتعد له الشاي‪ ،‬ثم تصنع‬        ‫من مجيئه‪ ،‬لكنه فقط لا يعرف التوقيت‪ ،‬كثي ًرا ما لجأ‬
   ‫له ساندويتشات الجبن والسلطة الخضراء‪ ،‬ربما‬              ‫لزوجته الأولى‪ ،‬آه‪ ،‬نسي ُت أن أقول‪ ،‬لم تكن الطائفة‬
‫يقب بطنه وتتو َّرد وجنتاه مرة أخرى‪ .‬في تلك الأثناء‬         ‫التي ينتمي إليها أبي تعارض الزواج من امرأتين‪،‬‬
   ‫أصبح ُت في الخامسة عشرة‪ ،‬عاد بي أبي إلى بيت‬
‫أمي‪ ،‬طرقنا الباب ولم يفتح أحد‪ ،‬لمح ُت ورقة صغيرة‬            ‫ربما كان يريد العودة إليها وم ّد أواصر الوصال‬
  ‫يبزغ طرفها من تحت الباب‪ ،‬سحبتها فأخذها أبي‬                ‫من جديد‪ ،‬فحاول أن يستعيد أيامه الحلوة معها‪،‬‬
‫وضيق عينيه ليتمكن من قراءتها‪ ،‬كانت مكتوبة بلغة‬
   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100