Page 100 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 100

‫العـدد ‪33‬‬   ‫‪98‬‬

                                                        ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

  ‫ويسبب ألمًا لا ُيطاق‪ ،‬سأل ُت ليلى‪ ،‬ماذا حدث لي؟ في‬                                          ‫نيَّة حاليًا‪.‬‬
  ‫البداية لم ترد‪ ،‬تأ َّس ْت بعينين حزينتين‪ ،‬دانة كادت‬    ‫احتج ُت إلى متدربين في المعمل‪ ،‬وكان الحل في إعلان‬
‫تقتلنا جمي ًعا‪ ،‬هدمت نصف المعمل و‪ ..‬وماذا؟ وهتكت‬          ‫مدفوع الأجر عن طلب معمل بيرلسكوف العضوي‬
‫جز ًءا من قدميك يا أستاذي‪ ،‬لم يبق فيه إلا الـ‪ ..‬الـ‪..‬‬
‫العظام و‪ ..‬علاجك سيحتاج لشهور‪ ،‬هكذا قالت ليلى‪،‬‬             ‫إلى باحثين‪ ،‬دراسة مجانية لمدة سنة‪ ،‬يساعدونني‬
                                                            ‫ويتدربون على ما سأتوصل إليه من نتائج‪ ،‬ق َّدم‬
                                   ‫ولم أجد ر ًّدا‪.‬‬            ‫أكثر من مئتي طالب من داخل وخارج البلاد‪،‬‬
   ‫وقف ْت بجواري ممرضة بدينة بيضاء تهز رأسها‬
                                                         ‫اختر ُت ثلاثة من بلدي واثنين من الأجانب‪ ،‬من بين‬
     ‫ولا تتكلم‪ .‬في هذه الأثناء وجد ُت الوقت مناسبًا‬     ‫المُختارات شابة مصرية مليئة بالطاقة والحيوية‪ ،‬كان‬
 ‫للعمل بنصيحة أبي‪ ،‬يا بيرلسكوف لا ُتكثر في تأمل‬
                                                           ‫اسمها غريبًا بعض الشيء «ليلى» لم أتأمل الاسم‬
                                        ‫الأشياء‪.‬‬         ‫طوي ًل‪ ،‬عم ًل بنصيحة أبي القديمة‪ ،‬لا تكثر في تأمل‬

                ‫***‬                                                                             ‫الأشياء‪.‬‬

‫مع كل مرة يفكون فيها وثاق اللفائف البيضاء كانت‬                          ‫***‬
    ‫حماستي تتداعى‪ ،‬أصابع غريبة تعبث بجسدي‪،‬‬
                                                           ‫أسدل ُت ستارة بنفسجية وبدأنا نعمل بكل ِجد هذا‬
  ‫ممرضات يقمن برش المخدر بكثافة‪ ،‬كل يوم تفرغ‬                 ‫الصباح‪ ،‬في ذلك اليوم لم أفكر في الراحة ُمطل ًقا‪،‬‬
   ‫زجاجتان أو ثلاث‪ ،‬بدأت أرى الأمور على حقيقتها‬               ‫كأنه يوم سيمتد بي عا ًما للأمام‪ ،‬أعطى اللون‬
‫عندما أدرك ُت أنني لن أسير على قدم َّي بعد ذلك أب ًدا‪،‬‬      ‫البنفسجي للمعمل إحساس الأحلام‪ ،‬كأننا تركنا‬
‫ولن آكل كما كنت‪ ،‬لن أعمل القهوة أو أدخل بمفردي‬              ‫كوكبنا الأرضي وذهبنا إلى المريخ في لمح البصر‪،‬‬
   ‫الحمام‪ ،‬لن‪ ..‬ولن‪ ،..‬لم أتوقع أن يغيب التفكير في‬
 ‫معملي لحظة‪ ،‬غاب ثلاثة أشهر كاملة‪ ،‬ولم أعد أدري‬           ‫وأثناء اندماجي في لملمة الأوراق من طلابي سمع ُت‬
                                                         ‫فرقعة شديدة‪ُ ،‬هيئ لي أنني أُصب ُت بعدها بالصمم‪،‬‬
    ‫ماذا سأفعل وإلى أين سأصير بعد ساعة واحدة‬             ‫وشعر ُت بدفء‪ ،‬ثم بسخونة‪ ،‬ورأيت الطلبة يجرون‬
‫فقط‪ ،‬الوقت يمر ببطء شديد‪ ،‬ولم يعد لد َّي أي مدخر‬
                                                             ‫تجاهي‪ ،‬خلع أحد الطلاب البالطو وأخذ يضرب‬
   ‫من الصبر‪ ،‬أتمنى لو أنام طوي ًل قبل أن أعود‪ ،‬أو‬        ‫مؤخرتي بكل قوته‪ ،‬كلما رفع البالطو أراه مشتع ًل‪،‬‬
     ‫أنام طوي ًل ولا أعود‪ ،‬كنت أستمع إلى الأصوات‬
                                                             ‫وكلما أنزله يخمد الاشتعال‪ ،‬تصورت لبرهة أن‬
  ‫التي أتمناها بشكل دائم‪ ،‬عاودتني الأحلام القديمة‬        ‫التفاعلات الكيميائية على الطاولة اتخذ ْت من البالطو‬
   ‫وصرت أُكثِ ُر في تأمل الأشياء‪ ،‬على عكس نصيحة‬           ‫الخاص بي تجربة حية‪ .‬ثم بدأت ارتباطات الأفكار‬

                                           ‫أبي‪.‬‬             ‫في رأسي تأخذ طريقها التدريجي للذوبان‪ ،‬أش ُّم‬
   ‫انقضى الأسبوع الأول وأنا على هذه الحال‪ ،‬بدأت‬           ‫رائحة دخان وبارود‪ ،‬و ُهيئ لي أن جز ًءا من المعمل‬
  ‫الشياطين تزورني على هيئة أفكار مجردة‪ ،‬الأشعة‬             ‫يتوهج‪ ،‬يشتعل‪ ،‬رفعني طلابي محمو ًل لا أرى إلا‬
   ‫البنفسجية كانت تعبرني أثناء الليل‪ ،‬وحدها‪ ،‬دون‬
                                                            ‫سقف المعمل‪ ،‬كن ُت أستطيع المشي‪ ،‬لا أعرف لماذا‬
      ‫ستارة تحملها أو خلية ُتحركها‪ُ ،‬تخر ُج صوت‬                                    ‫شالوني بهذا الشكل؟!‬
 ‫أجدادي الذين قضوا في الحروب البدائية‪ ،‬أو غرقوا‬
                                                                 ‫طوال الطريق ظلَّت الألوان تتغير في عيني‪،‬‬
   ‫في السفن الشراعية‪ ،‬وبعد أن أغفو أحلم بحكايات‬         ‫والأصوات في أذني‪ ،‬وقلبي تزداد ضرباته‪ ،‬في البداية‬
 ‫أمي‪ ،‬رسائل تأتيني من حيث لا أعلم‪ ،‬كانت تناديني‬          ‫شعرت بتنميل في مؤخرتي‪ ،‬ثم وجع يروح ويجيء‪،‬‬

    ‫باسم دلع‪ ،‬هل تعرف يا بيرلو أنك كنت اثنين في‬                     ‫ثم ألم مستمر لا يتركني لحظة واحدة‪.‬‬
  ‫بطني؟ لا يا أمي لا أعرف‪ ،‬في بطني يا بيرلو‪ ،‬بيتك‬            ‫بعد مدة لا أعلمها رأيتني نائ ًما في مكان غريب‪،‬‬
‫الثاني بعد َظهر أبيك‪ ،‬كنتما توأمين‪ ،‬ثم ابتلع َت أخاك‪،‬‬      ‫نصفي الأسفل ملفوف بشاش كثيف ج ًدا‪ ،‬كأنني‬
‫وأصبحتما جنينًا واح ًدا‪ ،‬قال لي العراف المتجول بعد‬          ‫مومياء فرعونية‪ ،‬الشاش مقموط يضغط أمعائي‬
   95   96   97   98   99   100   101   102   103   104   105