Page 104 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 104

‫العـدد ‪33‬‬                           ‫‪102‬‬

                                                              ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

‫محمود الرحبي‬

‫(سلطنة عمان)‬

‫دستويفيكي في الدار البيضاء‬

   ‫حين كنت أدرس في الرباط في مطلع التسعينيات‪،‬‬          ‫إلى محمود الريماوي‬
   ‫أتريب من زيارة الدار البيضاء وحي ًدا‪ ،‬تحت وقع‬         ‫اقتنيت من سوق الكتب المستعملة بحي «الحبوس»‬
  ‫ما سمعته من قصص كثيرة عنها أشبه بالخرافة‪.‬‬                  ‫رواية (مجنون دستويفسكي) للأفغاني عتيق‬
    ‫فمن أراد أن يهرب أو يتوه عن أهله ولا يجدونه‬        ‫رحيمي‪ .‬كان شبيه راسكيلنكوف وسالي في الرواية‪،‬‬
                                                        ‫شاب وشابة أفغانيان‪ .‬ويظهر الشاب صامتًا طوال‬
       ‫فإنه يذهب إلى الدار البيضاء‪ ..‬قصص كثيرة‬          ‫الوقت‪ ،‬في حالة خرس اختياري‪ .‬أقرب شب ًها ببطلي‬
   ‫تتداولها اﻷخبار حول مختفين يتم العثور عليهم‬              ‫هذا نجم ساحة اﻷمراء بالدار البيضاء‪ ،‬المهمش‬
 ‫هناك‪ .‬وأحيا ًنا بعد عقود من اختفائهم‪ .‬مدينة يمكن‬         ‫والذي لا يهتم بشأنه أحد غيري في هذه اللحظة‪.‬‬
                                                             ‫ففي مقهى الفندق الذي أسكنه‪ ،‬غير بعيد عن‬
     ‫تشبيهها بمدن العالم الكبرى كمكسيكو سيتي‬            ‫معرض الدار البيضاء‪ ،‬كل صباح قبل الإفطار‪ ،‬كان‬
  ‫وبومبي وسان بطرس برج؛ مدينة دستويفسكي‪.‬‬                 ‫يقف قبالتي دوستويفسكي بقامته وعظام لحيته‪-‬‬
‫لم يعد الآن يعتريني أي خوف وأنا اتبع أثر مجنوني‬           ‫تلك اللحية التى وصفتها بإتقان آخر زوجاته آنا‬
                                                          ‫غريغوريفنا حين كان يمشرها جيئة وذها ًبا وهو‬
      ‫المسالم الشبيه حد التماهي بصاحب الجريمة‬            ‫يملي عليها فصول رواياته‪ .‬صامت‪ ،‬يجلس وحي ًدا‬
    ‫والعقاب‪ .‬لقد تجاوزت وهم الخوف بعد زيارات‬                 ‫ولا يقوم سوى بحركة يتيمة‪ ،‬وهي النهوض‬
‫سنوية متتابعة لمعرض الكتاب‪ ،‬لأكتشف بأنها مدينة‬             ‫والمشي ثم الدوران في نفس النقطة‪ ،‬بعدها يعود‬
  ‫حميمة وسلام كامل في النهار‪ ،‬فهي تكون سارحة‬             ‫للجلوس على جدار النافورة المعطلة لساحة الأمراء‬
  ‫مشغولة بنفسها وأسواقها وحركتها طوال نصف‬
   ‫اليوم‪ ،‬ولكن ما إن يحل الليل إلا وتستحيل حف ًرا‬      ‫أو (البرنس)‪ .‬عيناه شاردتان‪ ،‬ولا يمكن للناظر الذي‬
  ‫متوجسة‪ ،‬وعلى العابر في أزقتها التسلح بقدر مهم‬         ‫يعرف دوستويفسكي إلا ويشعر بأنه أمام فيودور‬

                           ‫من الانتباه والحذر‪.‬‬                             ‫حقيقي جاء من وراء الزمن‪.‬‬
   ‫حين اقترب الغروب كان الشبيه قد قطع دوراته‬                ‫حاولت تصويره ولكنه هرب راك ًضا‪ .‬نصحني‬
     ‫اليومية حول ساحة اﻷمراء‪ ،‬تلك الدورات التي‬
  ‫يؤديها كوظيفة أو واجب وبحماس صامت‪ .‬يدور‬                     ‫محمود الريماوي بألا أحاول‪ ،‬خو ًفا من ردة‬
 ‫حول الساحة ويستريح لحظة على حواف النافورة‬                 ‫فعل غير متوقعة‪ ..‬ولكن كم هو عجيب أن ترى‬
     ‫المهجورة قبل أن يستأنف ‪-‬من جديد‪ -‬دورانه‬              ‫دوستويفسكي كل صباح‪ .‬تراه بصمت المعجزة‪.‬‬
   ‫بحماس لا يفتر‪ .‬ولكن ما إن تبدأ الرؤية في الأفق‬      ‫الدار البيضاء أو الغول اﻷسطوري كما يحلو لبعض‬
    ‫بالبهوت والغروب يبعث برسائله‪ ،‬وبحدس يقظ‬                ‫المثقفين تسميتها‪ ،‬مدينة عملاقة تبتلع كل شيء‬
                                                          ‫وتصهره في معدتها الهائلة‪ .‬كل حي صغير فيها‬
      ‫فإن شبيه دوستويفسكي في تلك الأثناء يترك‬              ‫بمثابة حياة كاملة تختصر العالم‪ .‬نهارها يموج‬
   ‫مكانه نهائيًّا ويتقدم خطيًّا مختر ًقا الحارات التي‬    ‫بالحياة والعمال وطالبي الرزق والطلبة والمجانين‬
 ‫بدأت تنسحب منها الحياة‪ .‬وفي الصباح أراه يحوم‬            ‫المسالمين والمطاعم المتناسخة على انعطافات الرؤية‬
    ‫أمامي قرب المقهى‪ .‬يدور ويدور كمتصوف جاء‬               ‫وليلها غير مأمون تتربصه كائنات شبحية‪ .‬أذكر‬
 ‫من وراء الزمن والحياة ليتلو صلواته بصمت وهو‬
  ‫يدور حول كعبته‪ .‬ثم يختفي عدة دقائق متنق ًل في‬
 ‫أكثر من مكان وساحة‪ ،‬ولكنه لا يلبث وأن يعود إلى‬
   99   100   101   102   103   104   105   106   107   108   109