Page 105 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 105
103 إبداع ومبدعون
قصــة
يعتمرها أحد العابرين يمشي ببطء ليجعل الفجوة تلك النافورة المهجورة التي تتضح أكثر من مقهى
بيننا تتسع .مشيت طوي ًل وراءه بتحفز من يتبع (لاشوب) الذي اعتدت الجلوس عليه .وكأن س ًّرا
مسار عاصفة .إلى أن دخل حيًّا شعبيًّا مظل ًما فتبعته غام ًضا لن يمكن لسواه ،يدفعه للاستراحة على
رغم هطول العتمة التي بدأت تخلع رداءها المتوجس حواف تلك النافورة من دون الأماكن العامة المتاحة
على الوجود .كانت خطواته تتسع إلى أن اختفى في للجلوس والتي تتوزع بين تكيات وكراس إسمنتية
أحد المنعطفات فوجدت نفسي أركض حتى تعثرت وحواف أسوار واطئة وعتبات ،ولكنه يختار فقط
بصبية يلعبون بصوت عال مستغلين قدر الإمكان تلك الدائرة وفي مكان محدد منها يعرفه ويجده
آخر لحظات الغروب .اختفى دوستويفسكي من
مرمى نظري نهائيًّا .رجعت إلى أحد الصبية وسألته شاغ ًرا طوال الوقت.
عن اسم الحي .كان هاد ًئا ومبتس ًما وقد قرأ في على طوال زياراتي السنوية التي تتزامن مع معرض
ملامحي علامات غريب تائه( :حي الشيشان) الدار البيضاء كنت أجد شبيه دوستويفسكي
-حي الشيشان! ينتظرني في نفس المكان .وكأن الـ 350يو ًما -حيث
إني عادة ما أمكث فقط عشرة أيام من عمر المعرض
الناس يسمونه هكذا ولا أعرف اسمه الحقيقي.
-أريد الوصول إلى وسط البلد إلى ساحة البرنس كل عام -وكأن تلك اﻷيام القليلة المستقطعة من
حياتينا يتوقف فيها الزمن مدي ًدا لينبثق من جديد
من أين أخرج. في لحظته الجديدة .وقد وجدتني مع الوقت أبحث
-احذر جي ًدا .لقد دخل الظلام .يجب أن تأخذ عنه .هو الذي لا يبحث عن شيء أو أحد ،وقد حسم
حياته بالمشي اللانهائي .وبالهدوء اللانهائي .غار ًقا
تاكسي. في بحيرة صمته التي يجدف فيها بساقيه في طرق
-أين أجد تاكسي؟ حفظتها خريطة رأسه بدون تعثر أو تردد أو ارتباك.
تبرع بالمشي أمامي حتى أخرجني من الحي ووقف جربت مرة أن أدور وراءه في طريقه الخطي الذي
معي وهو يلوح لكل تاكسي فارغ. يتبع حواف الطريق .طريق مدروس بحكم الخبرة
حين زمعت الركوب أخرجت من جيبي عدة دراهم والعادة ولا يتعثر بشيء .طريق الحواف هو طريق
لأعطيها إياه فرفض أن يقبلها. الباعة وماسحي اﻷحذية وعسس البنايات والمحال.
اختفى دوستويفسكي ولكنه ظهر في الصباح كسائر كان يمر عليهم دون أن يتعثر بشيء أو أحد ،قبل
أن يعود أدراجه إلى ساحة البرنس حيث النافورة
عهده.
والآن وأنا اكتب هذه الأسطر ،مر يومان على المهجورة موطئ استراحته الدائم قبل أن ينطلق
زيارتي للدار البيضاء .ولكني في هذه الزيارة لم أجد في جولة جديدة مكرورة ،وجدت أن الوجوه فيها
دوستويفسكي في الساحة .بعد أن افترقت عنه 350 تتغير باستمرار والأجساد تبدل مواقعها في كل
مرة .وحين يقترب الغروب فإنه يجلس استراحته
يو ًما. اﻷخيرة ،وعينه على نواة اﻷفق الذي بدأ إشراقه يكبو
جلست وقتا انتظر عبوره الصامت ولكن لم يبن له روي ًدا ،ومن هناك ينطلق إلى المجهول حيث سيقضي
أي أثر .سألت عنه ماسح أحذية يقتعد غير بعيد عن
عتمة ليله.
النافورة المعطلة. ولكن ذات غروب قررت أن أتبعه حتى النهاية ،غير
-ذلك الرجل الصامت ذو اللحية والعينين الغائرتين مكتف بجولات النهار ،ممنيًا النفس باكتشاف جديد
الذي اعتاد أن يجلس هنا .أين ذهب؟ ما ذا حل به؟ يستحق سكنًا في مساحة ذاكرة الرأس أو ذاكرة
-لا أعرف. الورق.
جلست في مكانه الذي اعتاد على حافة النافورة كان يسرع الخطى هذه المرة ،شعرت بخطواته تتسع
العطلة .ومن هناك قمت ماس ًحا الطرقات والساحات ع َّما عهدته فيه وهو يذرع الساحات النهارية .وكانت
خطواتي تتلاشى وراءه ولكنني كنت أبذل قصارى
النهارية التي اعتاد أن يسلكها .أستريح قلي ًل
حيث اعتاد أن يستريح ،قبل أن أستأنف جولاتي جهدي للحاق به .تعمدت ألا أحاذيه حتى لا يشعر
الصامتة .وحين يهل الغروب ثم تعتم الرؤية في بخطواتي تار ًكا مسافة فراغ واسعه ،لا تلبث وأن
الأفق ،أعود أدراجي إلى الفندق.