Page 98 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 98

‫العـدد ‪33‬‬   ‫‪96‬‬

                                                         ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

     ‫الشتاء‪ ،‬كدت أتجمد والقس يخطب فينا بكلمات‬             ‫ابتعد خلالها عن جميع أنواع التفاعل‪ ،‬لم يقل لي إلا‬
    ‫عاطفية حد الإحراج‪ ،‬ندف الثلج تلفح وجهي ولا‬                                              ‫جملة واحدة‪:‬‬
  ‫أشعر بأعضائي التناسلية إطلا ًقا‪ ،‬قدمي في الحذاء‬
                                                                             ‫«لم يبق إلا الذهاب إلى مصر»‪.‬‬
                                    ‫تكاد تتجمد‪.‬‬                                             ‫وأضاف أبي‪:‬‬
   ‫بعد انتهاء المراسم لملمت متعلقات أبي من الكوخ‪،‬‬
    ‫نسخة الكتاب المقدس وضعتها في جيب البالطو‪،‬‬             ‫«هكذا قالت الأعرابية‪ ،‬مؤكد أن لديها وجهة نظر في‬
    ‫لا أعرف لماذا أحرقت كل ما يتعلق بأغراض أبي‬            ‫تنبؤاتها‪ ،‬وإلا كيف سيكون لي حفيد اسمه ناجي؟»‪.‬‬
                                                          ‫في أعلى نقطة من الجبل اتخذ له كو ًخا كمأوى‪ ،‬بيت‬
     ‫الشخصية؛ الخلطة التي كان يدهن منها رأسه‪،‬‬
‫القبعات المتنوعة التي كان يعتمرها‪ ،‬جواربه الصوفية‬             ‫خشبي صغير يبدو أنه كان ملا ًذا لمتعبد قديم‪،‬‬
                                                          ‫المرة الأولى التي عرفت فيها طريقه وزرته طردني‪،‬‬
     ‫وقفازاته الجلدية‪ .‬جمعت كل ذلك في كيس كبير‬           ‫«انزل‪ُ ،‬عد إلى البيت ولا تأ ِت إلى ُهنا مرة أخرى‪ ،‬هل‬
‫وأشعل ُت فيه النيران خلف البيت‪ ،‬كان أكثر ما أثارني‬         ‫سمعت؟»‪ ،‬قال ورغاء أبيض يملأ فمه‪ .‬كان قد أخذ‬
 ‫رائحة الخلطة العشبية‪ ،‬كأن رأسه المصاب هو الذي‬
                                                            ‫معه خلطة رأسه ونسخة من الإنجيل وطاووسه‪،‬‬
    ‫يحترق‪ ،‬غالب ُت المشاعر العاطفية كما علمني أبي‪،‬‬           ‫لا أعرف لماذا احتفظ بالإنجيل وهو غير معت ِرف‬
   ‫وصر ُت جام ًدا‪ ،‬عقلانيًّا‪ ،‬كما تمنى دائ ًما أن أكون‪.‬‬   ‫به‪ ،‬كان يبحث عن إيمان من نوع خاص‪ ،‬لم أستطع‬
 ‫منذ أن غاب الجسد الكبير وأنا أشعر بشيء غريب‪،‬‬            ‫فهمه حتى الآن‪ ،‬هل لا يعترف بيسوع من الأساس‪،‬‬
 ‫أسمع صوته يتردد بشكل مستمر‪ ،‬حتى أنني ِخلته‬               ‫أم لا تزال له منزلة جديرة بالاعتبار؟ سمعته كثي ًرا‬
 ‫لم يمت‪ ،‬وأن الرجل الذي وجدناه ملقى ذات صباح‬                 ‫يكرر جملة‪« ،‬طاووسي الملك سيصنع لي َق ْصري‬
  ‫أسفل الجبل هو «دوبلير» مأجور لتمثيل دور أبي‪.‬‬             ‫هناك»‪ ،‬لا أعرف ماذا يعني بهذه الجملة‪ ،‬هل يمكن‬
   ‫بعد قرابة شهر من عبوره الأرض للأمجاد ال ُعلا‪،‬‬          ‫أن يكون قد قرأها في أحد الكتب؟ تشبث بها بشكل‬
  ‫داخلني إحساس بزيارته‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬سمع ُت صوته‬                 ‫غريب‪ ،‬الطاووس ملك‪ ،‬الطاووس ملك‪ ،‬ربما جاء‬
 ‫يتردد بين شواهد القبور‪ ،‬تغير الريح نبرته‪ ،‬تفتتها‪،‬‬        ‫تفسير الجملة متأخ ًرا‪ ،‬فذات صباح طرقت يد ثقيلة‬
 ‫لكنه صوته‪ ،‬من أجل اصطفاء الصوت بكامل دقته‪،‬‬                 ‫باب بيتنا‪« ،‬أبوك»‪ ،‬قالها الغريب ولم يزد‪ ،‬جريت‬
    ‫ربما سأحتاج إلى أذن مرهفة وموهوبة في تنقية‬              ‫وراءه متخي ًل أنني طرت من السرير إلى الشارع‪،‬‬
  ‫الأصوات وتفسيرها عن بعضها‪ ،‬الكثير من الناس‬
   ‫لا يتوقف أمام الصوت‪ ،‬السمع‪ ،‬من ُهنا‪ ،‬من هذه‬                 ‫كن ُت خفي ًفا أجري‪ ،‬باتجاه الكوخ أجري‪ ،‬تبخر‬
                                                            ‫الرجل صاحب اليد الثقيلة‪ ،‬كأن طي ًفا أيقظني من‬
     ‫النقطة تحدي ًدا‪ ،‬رفع ُت يدي أمام شاهد قبر أبي‪،‬‬      ‫نومي ثم تبدد‪ .‬عندما وصل ُت رأيت دائرة مكونة من‬
 ‫أسند ُت أصابعي على الرخام الأبيض‪ ،‬فطقطق الورد‬             ‫خمسة أفراد‪ ،‬يحيطون بشخص ممدد على الأرض‪،‬‬
‫الناشف وتفتت‪ ،‬كن ُت أسمعه‪ ،‬أزن صوته وأميزه عن‬            ‫وسمعت بعض الكلمات الطائرة دون أن أرى الأفواه‬
                                                          ‫التي أخرجتها‪ ،‬رمى نفسه‪ ،‬قتل نفسه‪ ،‬مات قبل أن‬
  ‫صوت الريح‪ ،‬وأنقي الاثنين من كلمات أبي‪ ،‬كانت‬              ‫يصل إلى الأرض‪ ،‬يرحمه الرب‪ ،‬ثم انصرفوا‪ ،‬حام‬
 ‫الأصوات تتح َّرك من تلقاء نفسها‪ ،‬لا أستدعيها‪ ،‬ولا‬       ‫طاووسه حول جثته وأخذ ريشه الملون يصنع دائرة‬

              ‫أجبر نفسي على حل ألغازها الغريبة‪.‬‬                               ‫تحجز الشمس عن وجه أبي‪.‬‬
‫منذ تلك الزيارة أصبح ُت موهو ًبا في تمييز الأصوات‪،‬‬        ‫وككل من يموت أبوه‪ ،‬تقاسمتني مشاعر متناقضة‪،‬‬
                                                         ‫بين ارتباك الفراق المفاجئ‪ ،‬وبين إعطاء وجهي للريح‬
    ‫حتى أنني سمع ُت صوت جدي‪ ،‬الذي مات عندما‬
 ‫كان أبي لا يزال طف ًل‪ ،‬وانتابتني فوضى عارمة من‬                                          ‫ومواجهة الحياة‪.‬‬
  ‫الأحاسيس‪ ،‬كان أكثرها طف ًوا أنني أريد تعلم عزف‬
‫الموسيقى‪ ،‬آلة واحدة على الأقل‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬كن ُت أصغر‬                       ‫***‬
  ‫طالب في معهد «سانكت» لتعليم الموسيقى‪ ،‬اخترت‬
                                                             ‫دفن ُت أبي في غياب أمي‪ ،‬كان يو ًما بلي ًدا من أيام‬
            ‫الكمان من بين جميع الآلات الموسيقية‪.‬‬
    ‫ح َّل صوت الكمان مكان الأصوات البشرية التي‬
   93   94   95   96   97   98   99   100   101   102   103