Page 92 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 92
العـدد 33 90
سبتمبر ٢٠٢1
عمرو العادلي
من أجل ناجي بيرلسكوف
الذي يشبه أبي ،بالفعل رأيته بشكل أوضح ،كانت عندما خرج من غيبوبته التي استمر ْت شه ًرا
أكوام الثلج الصغيرة رابضة خلفه ومخيفة ،يكشطه أراد أن ينطق ،قال طبيبه المُعالج لكل َم ْن حوله،
أبي بهمة شاب في العشرين ،رغم بياض شعره اتركوه يتكلم ،لا يقاطعه أحد ،فذلك جزء من
الطويل ،والدخان الكثيف الذي يلف رأسه ،لا أعرف العلاج ،تحلَّقوا حوله غير متأكدين إن كان يراهم
هل يدخن أم أنه بخار البرودة الخارج من فمه ،فتح
أم لا ،عيناه مربوطتان بضماد أبيض متسخ،
شنطة السيارة ووضع الكوريكُ ،هيئ لي أنه رمى ونصفه الأسفل لا يتحرك ،وبالفعل ،منذ أن فتح
عقب سيجارة في اللحظة التي تحركت فيها السيارة،
لم أتأكد من ذلك ،لكني لاحظت أن أبي ينكمش كلما فمه لم يقاطعه أحد..
ذات مرة كن ُت ألقي محاضرة على طلابي ،موضوعها
ابتعد ُت ،أصبح نقطة رمادية بعيدة تلفها سحب
كبيرة بيضاء ،وكتل الثلج التي تشبه الخراف أي ًضا، عن الفهم العقلاني لأمور الحياة ،وعلى عكس
تتقلَّص ،لكنها لا تزال رابضة في الخلفيَّة ،بلا ِحراك. موضوع المحاضرة انتابني شعور غريب وغير
أتذكر المحاضرة رغم انتهائها منذ ساعات ،وبعض عقلاني بالم َّرة ،تذكرت فجأة أبي ،بلا أي مقدمات
التفاصيل تعاود المرور في رأسي ،توقف ْت في حلقي حضر ،بالأدق؛ رأيته ،شق صفوف الطلاب واندفع
الجملة التي كن ُت أشرحها ،نسيت ركام الكلام الذي تجاهي ،أب ًدا ،لم يكن طي ًفا ،وأب ًدا لم يكن ُحل ًما ،ولا
أعددته لهذا الكم الهائل من الطلبة ،وملأ صوت أبي حتى استدعا ًء أو شيئًا آخر من هذا القبيل ،فبعد أن
أذني والقاعة ،تخيل ُت أني لو تكلمت سأسمع نبرته أصبح ُت أشبهه في ملامحه تشابه ُت معه في أغلب
تصرفاته ،ثم توالى الاستنساخ عبر أسباب غير
هو لا صوتي أنا ،لذا ،فلم أتكلم ،احترا ًما لسماعه، مفهومة ،كلما تقدم بي ال ُعمر أضبط نفسي متلب ًسا
وبالفعل ،بدأ صوته يتسلل ،وأنا لا أملك حيلة إلا بفعل شيء مما كان يفعله .في البداية ،حدث ذلك
الاستماع ،آه ،كنت سأنسى أن أقول شيئًا مه ًّما، دون أن أدري ،ثم بعد ملاحظاتي المتكررة بدأ ُت
لقد مات أبي منذ سنوات بعيدة ،وشيئًا آخر أهم، أنتبه لذلك التغير الذي يقطع تسلسل أفكاري .بعد
لقد قتل نفسه بطريقة غريبة ،لم ينتحر ،فقط مات أن انتهت المحاضرة وتحلَّق حولي طلابي نسيت
طيف أبي الذي اخترق القاعة دون مقدمات ،خرجت
بطريقة غير مألوفة. وتوجهت إلى سيارتي ،كانت مدفونة في الثلوج،
وفيما أزيل من حولها الكتل الهشة البيضاء ،امتدت
*** يد برفق وجذبت منّي مجرفة الثلج ،وقبل أن أنتبه
بدأ أبي حياته راعيًا للخراف ،في سن الخامسة سمعت صوته ،أبي:
والعشرين ،قبل ذلك عاش حياته متنق ًل بين مهن «اركب يا بيرلسكوف وش ّغل المُحرك ،أم تحب أن
مختلفة ،سافر إلى جبال كردستان ،وامتهن مع أناديك باسمك الآخر ،ناجي؟».
بعض البحارة صيد الحيتان الذي كان ممنو ًعا كالمسحور امتثلت للأمر ،ركبت السيارة وأخذ ُت
آنذاك ،ثم عمل في كزاخستان بصيانة المداخن ،وفي أنظر بعينين مضطربتين في المرآة لأرقب الشخص