Page 87 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 87

‫‪85‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

  ‫تؤمن‪ ،‬أن كل مطلقين هما كاذبان بالضرورة‪ ،‬ومن يوم‬                                    ‫نص‪ ،‬أم تنوين أكل مكافأتي؟‬
  ‫لقائنا الأول‪ ،‬يوم اجتماع البطيخ‪ ،‬وأنا أعلم أنك تنفر من‬      ‫اكتسى وجهها بجدية مفاجئة كأنها مقدمة على فعل خطير‪،‬‬
 ‫الأكاذيب‪ ،‬وعلى ما سبق لم توجه لي سؤا ًل قط عن حياتي‬
  ‫الخاصة‪ ،‬مكتفيًا بسماع ما أقوله مظه ًرا الحزن والأسى‬                                                 ‫ثم قالت‪:‬‬
                                                               ‫‪ -‬هناك مغنية تونسية قديمة اسمها ُعليا‪ ،‬لها أغنية تذكر‬
                                 ‫وبعض التعاطف‪.‬‬
      ‫انظر يا صديقي يا حمودة‪ ،‬أنا لست كاذبة‪ ،‬أنا فقط‬                              ‫فيها اسم تدليلك الذي اخترته لك‪.‬‬
  ‫مختلفة‪ ،‬ولذا فإن الوقائع التي أدت إلى فشلي في حياتي‬              ‫افتعل ْت سعا ًل كالذي يفتعله قراء القرآن قبل التلاوة‪،‬‬
                                                                    ‫وبجدية تامة بدأت تغني بصوت له مذاق ضحكتها‪:‬‬
       ‫الخاصة لن يتفهمها أحد‪ ،‬هل أكشف لك عن سر؟‬
           ‫أشرت برأسي بعلامة الموافقة فراحت تقول‪:‬‬                         ‫«جاري يا حمودة‪ ..‬حمودة‪ ،‬دبر عليا يا أمه‬
                                                                    ‫الناس رقودة‪ ..‬رقودة‪ ،‬وأنا نومي حرام عليا يا أمه‬
‫‪ -‬بعد طلاقي الثالث بدأت أرى أولادي رؤية جديدة‪ ،‬إنني‬             ‫جاري يا حمودة‪ ..‬حمودة‪ ..‬إنت اللي مشعلل ناري يا أمه‬
  ‫أحيا ًنا أنظر إليهم كأني لا أعرفهم‪ ،‬وأبذل مجهو ًدا جبا ًرا‬   ‫تمنيتك بداري‪ ..‬بداري‪ ..‬مثل الشمعة ضوي عليا يا أمه»‪.‬‬
                                                                  ‫عندما انتهت من الغناء كنت قد سقطت في هوة حبها‪.‬‬
                           ‫لكي لا أسألهم‪ :‬من أنتم؟‬
  ‫لقد بدأت أتأمل أولادي باحثة عن جامع يجمع بينهم‪ ،‬أو‬                          ‫***‬
‫يجمعهم بي‪ ،‬فلم أظفر بشيء‪ ،‬البنت الكبرى هي من الأول‪،‬‬
  ‫والذكور الثلاثة هم من الثاني‪ ،‬والبنت الصغرى هي من‬              ‫لن أدع الزمان يز ّيف مشاعري أو يجملها‪ ،‬ولذا يهمني‬
                                                                  ‫التأكيد على أن حبي لأمل ليس كهذا الحب الشائع بين‬
                    ‫الثالث‪ ،‬ما هذه المتاهة يا صديقي؟‬           ‫الرجال والنساء‪ ،‬إنه شيء مختلف كأنه ضحكتها العصية‬
‫أقول لنفسي‪ :‬لا يجمعهم سوى شهوة فرجي وألم رحمي‪،‬‬
 ‫إنهم نتاج حليب فحولة ثلاثة رجال‪ ،‬هل تعرف أن بعض‬                                                 ‫على التصنيف‪.‬‬
                                                                 ‫عندما كنت أنا أحقق نجا ًحا ‪-‬لا ينكره سوى حاقد‪ -‬في‬
                        ‫النساء يذقن َمن َّي أزواجهن؟‬
‫ليتني فعلتها‪ ،‬كنت على الأقل سأعرف شيئًا عن أصل خلقة‬                                ‫هندسة البناء‪ ،‬كانت أمل تتزوج‪.‬‬
                                                                  ‫بدأت أمل زيجاتها بعد أول لقاء لنا بسنة‪ ،‬عندما كانت‬
 ‫أولادي الذين أمنع نفسي من أن أصيح في وجوههم‪ :‬من‬                ‫في الخامسة والعشرين‪ ،‬وكفت عن الزواج عندما أصبح‬
                                           ‫أنتم؟‬
                                                                                      ‫عمرها خم ًسا وأربعين سنة‪.‬‬
    ‫***‬                                                        ‫في تلك العشرين سنة تزوجت أمل ثلاث مرات‪ ،‬وحصدت‬
                                                              ‫مرارة الطلاق ثلاث مرات‪ ،‬وولدت خمسة من الأبناء‪ ،‬ثلاثة‬
‫بعد ذلك اللقاء بأسراره الثقيلة تباعدت مقابلاتنا حتى كان‬
   ‫العام يمر بكامله ولا نلتقي خلاله مرة واحدة‪ ،‬فكنا إذا‬                                           ‫أولاد وبنتين‪.‬‬
                                    ‫التقينا قالت‪:‬‬                 ‫لم يكن أحد يعرف أسباب هذا الفشل المتكرر‪ ،‬حتى أنا‬
                                                                 ‫لم أجرؤ يو ًما على الدخول في تلك المنطقة الشائكة‪ ،‬كنت‬
‫‪ -‬هيا نكذب مثل الأصدقاء القدامى ويعاتب أحدنا صاحبه‬            ‫أظهر لها التعاطف الواجب ثم نعبر وقائع الزواج والطلاق‬
                                ‫ويتهمه بالتقصير‪.‬‬
                                                                                 ‫ونوجه دفة حديثنا في اتجاه مغاير‪.‬‬
   ‫تقول جملتها وتطلق ضحكتها التي تضيق لها عيناها‪،‬‬              ‫ظل هذا تعاملنا مع منطقة الزواج والطلاق حتى جاء لقاء‬
‫فيتفجر منهما دلال فاتن‪ ،‬ثم نتحدث كأننا نستأنف حديثًا‬
                                                                                                   ‫قالت لي فيه‪:‬‬
           ‫كنا قد قطعناه قبل دقيقة لا قبل عام بأكمله‪.‬‬         ‫‪ -‬أنت مهندس ناجح‪ ،‬ومغازل منزوع الأنياب‪ ،‬لكنك أرعن‪،‬‬
 ‫في لقاءاتنا الأخيرة لاحظت أن تغي ًرا عظي ًما قد طرأ عليها‪،‬‬
                                                                 ‫ورعونتك تلك أكسبتك حكمة عميقة‪ ،‬فأنت رجل حكيم‪.‬‬
    ‫تغي ًرا شملها من رأسها حتى قدميها‪ ،‬ضحكاتها قلّ ْت‬         ‫توقعت أن تعقب على جملتها بواحدة من ضحكاتها‪ ،‬إلا أنها‬
 ‫حتى كادت تنعدم‪ ،‬وقد يمضي اللقاء ولا تضحك ضحكة‬
‫واحدة‪ ،‬ضرب شيب سخيف شعرها فأصبح لونه رماد ًّيا‬                        ‫لم تضحك‪ ،‬بل لم تبتسم‪ ،‬وواصلت كلامها قائلة‪:‬‬
 ‫باهتًا مقب ًضا‪ ،‬الضيق من ملابسها اتسع‪ ،‬والقصير طال‪،‬‬                ‫‪ -‬آية حكمتك أنك لم تتورط معي على أي شكل كان‬
                                                                ‫التورط‪ ،‬أما قلب حكمتك فقد ظهر لي عندما منعت نفسك‬
     ‫بالجملة أصبحت لها هيئة أرملة تقف ذليلة في صف‬                  ‫من الخوض في شأن زواجي وطلاقي‪ ،‬أنت تعلم‪ ،‬بل‬
   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91   92