Page 83 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 83
81 إبداع ومبدعون
قصــة
رأى الناس الجسد يتعملق حتى كاد يبلغ حدود الوادي،
وفي الصدر ينمو زغب مخضوضر كثيف ،يتحول بسرعة
مذهلة إلى سيقان سميكة ،منتهية بأوراق عريضة ،داكنة
الخضرة ،ممتلئة بعصارات النيل .من بينها تبرز تيجان
اللوتس ،شاهقة ،تتكاثر من نفسها ،وتتفتح كعهدها لعين
السماء.
رأى الناس الساقين تنفرجان ،وما بينهما رحم مفتوح،
تتعلق أجنة لا حصر لها بجدرانه الطرية الزلقة .الأجنة
لا تنزلق ،وإنما تتشبث بذوائب معقوفة ،تنبت لها في
الحال .يتكور كل جنين على نفسه ،كأنه يدافع عن وجود
له مهدد ،قبل أن يستوي خل ًقا مكتم ًل ،يخرج بقوة دفع
ربانية.
يخرج متعث ًرا بالدهشة والغرابة أول الأمر ،ثم ما يلبث
أن يشق طريقه إلى النور ،يصير نق ًشا ينضم إلى بقية
النقوش.
شريط الأرض الخضراء الذي بدا ضي ًقا مزدح ًما عند
الكهف ،تكشف اليوم عن طيات أخرى له ،مختزنة في
الصحاري المحيطة التي امتد إليها الجسد ونقوشه
المتوالدة.
وحين تداخل الأخضر والقاحل ،وتداخلت النقوش ،أيقن
الناس أنه سيقال الآن ،ولأعوام كثيرة تالية ،إن ما من
ذرة طين ،وما من حبة رمل ،إلا ونقشت عليها اليد شيئًا.
وما من أحد من أولئك الذين قد أتوا من قريب ،أو من كل
فج عميق في ذاك اليوم ،إلا وقد قرأ في نقوش مخلوقات
الرحم المفتوح ،ما كان ،ما يكون ،ما سوف يكون.
عندئذ أدرك الناس السر ،وسكنت الأرض ،وكفت حركة
الجسد السابح ،وعاد إلى بدنه الأول ،متسر ًبا إلى أغوار
الكهف.
والشمس كفت عن مد أذرعها الألف ،وآبت إلى رحيل
محتوم ،غير أنها وهي تنحدر إلى مغيب ذاك اليوم ،جادت
بزفرة رضا طويلة ،جعلت ذؤابات شجر السرو ،هناك
على البعد ،تهتز متهدجة ،فتلين أعطاف قاماتها المشرعة،
وتتشابك منها الأغصان متعانقة ،ترمي بظلها إلى البعيد.
لحظة واحدة كانت كافية لأن يسترد الناس أنفاسهم في
نعمة الظل ،ويواصلون الطريق.
---------
* «حابي» إله النيل عند المصريين القدماء.