Page 81 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 81

‫‪79‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                                                              ‫اعتدال عثمان‬

                   ‫من وحي «حابي»*‬

              ‫لكنها مع ذلك في القرار‪ ،‬تتمنى السماح‪.‬‬                                                ‫فجر صيفي‪.‬‬
‫وجلة هي الأيدي‪ ،‬والأبدان ترتعش منها أرجل غائصة في‬                   ‫أشجار ال َّسرو متأهبة في تسامقها‪ ،‬وكأنها جند قد‬
‫الوحل‪ ،‬تجاهد كي تسحب الجسد الطافي‪ ،‬العاصي‪ .‬تغالب‬                   ‫استدعاهم الليل في نوبة صحيان‪ .‬قاماتها مشدودة‬
‫وتواطؤها َي ْغلِب ويسحب إلى أن يسجى الجسد‪ ،‬مكشو ًفا‬              ‫في إهاب الظلمة‪ .‬أطراف قممها الإبرية حراب تخز كبد‬
                                                              ‫السماء‪ ،‬ولا تسمح للريح أن تفلت أعنة الهبوب الرخي‪ ،‬أو‬
    ‫في َو َضح الصبح‪ ،‬ومن فوقه عين الشمس‪ ،‬مائلة إلى‬
                                  ‫الشرق‪ ،‬لا تزال‪.‬‬                           ‫تطلق نسائم الحياة في هذا الفجر الكابي‪.‬‬
                                                                 ‫رائحة مفعمة بالسر تفوح في أركان الكون‪ ،‬وبالسماء‬
‫لم يكن بالجسد انتفاخ أو تش ّوه‪ .‬الجلد مغضن‪ ،‬لكنه حي‪،‬‬
‫ناضح بأكسير غريب‪ ،‬ينزوي من ذاته‪ ،‬فلا يعتريه جفاف‬                    ‫غموض وإبهام ونذر موقوتة‪ ،‬تتوجس منها طيور‬
                                                                                              ‫متوفزة في الأعالي‪.‬‬
     ‫أو تبخر بفعل عين الشمس المُ ْح ِدقة‪ ،‬تلك التي بدأت‬
‫تستجمع لهيبها في ترقب حذر‪ُ ،‬حبست له أنفاس الوجود‪.‬‬                   ‫وحتى الأرض المنبسطة في استواء وسكينة أبدية‪،‬‬
                                                                 ‫المنداحة في آفاق ليلكية الزرقة‪ ،‬بدت اليوم على خلاف‬
 ‫حدث الجسد الطافي أمر عادي‪ ،‬طالما كانت العين شاهدة‬              ‫حالها‪ ،‬تتململ‪ .‬يغلي باطنها بانصهار غير مرئي‪ .‬تدمدم‬
      ‫عليه‪ ،‬تطل من أعلى على الأرض السوداء الخضراء‪،‬‬             ‫بأصوات حبيسة تحت السطح‪ .‬تتكلم لغة قديمة كالأزل‪،‬‬

  ‫المحتشدة في باطنها بأسرار ناسها‪ ،‬تحفظ لهم الأحلام‬                     ‫حاضرة أب ًدا‪ ،‬تظهر وكأنها منسية أو مخفية‪.‬‬
  ‫والأحزان والحكايا والخطايا‪ ،‬تظل تحملهم على ظهرها‪،‬‬             ‫لغة يعرفها أهل المكان‪ ،‬ويحفظونها في قلوب غويطة بلا‬
  ‫تدمغهم بميسمها ومواسمها‪ ،‬تجعل منهم أنصاف آلهة‬               ‫قاع‪ ،‬مثل الزمن‪ .‬لكن أب ًدا لا تنطق بها الشفاه‪ ،‬إلا في يوم‬
   ‫أوطغاة‪ ،‬تعزهم بالخير الذي يغمرها به حابي في وقت‬
‫معلوم‪ ،‬وتذلهم بالخوف والطمع والقلق أن يخلف موعده‪،‬‬                    ‫مثل هذا‪ ،‬صحت فيه أرضهم على شقوق العطش‪.‬‬
 ‫ثم تغيبهم في حناياها كلما حان الأجل‪ .‬وكل حين ينجلي‬                ‫تتسع الشقوق مثل الجراح‪ ،‬وهم على انتظار صبور‬
‫المخبوء‪ ،‬في ساعة مثل هذه الساعة عن جسد يحمله التيار‬           ‫لفيض مؤجل‪ ،‬يغمر الأرض‪ ،‬فتلتئم منها الشقوق الجراح‪،‬‬
                                                               ‫قبل أن تجأر فتوق الأحزان‪ ،‬والخيبات الدفينة‪ ،‬المترسبة‬
                              ‫صوب أعتاب الكهف‪.‬‬
‫لكن ما بال الأرض اليوم تتشقق أحشاؤها‪ .‬الناس صبار‬                                                    ‫في النفوس‪.‬‬
                                                                ‫في العيون كلام صامت‪ .‬الأبدان والأرجل كلها متواطئة‬
    ‫شوكي‪ ،‬تطل منه عيون بكماء‪ ،‬تتزين صدورهم بعقد‬
 ‫محموم من خفق القلوب‪ ،‬وشيء ما قد ختم على الأفواه‪.‬‬                 ‫على أمر واحد‪ ،‬عازمة على التوجه صوب مكان واحد‪،‬‬
‫الجسد مسجى عند أعتاب الكهف‪ .‬وجند شجر ال َّسرو ما‬                                       ‫تبلغه الآن‪ ..‬كهف «حابى»‪.‬‬
‫برح مشرع الأسنة‪ ،‬والصمت يريم على المكان‪ ،‬ثم يح ّوم‪.‬‬
                                                              ‫الماء الجاري الغامق يبين عن جسد سابح تسحبه الأيدي‪،‬‬
                    ‫والكل وكأن على رؤوسهم الطير‪.‬‬                ‫والأيدي وجلة تغالب خوف الصدور العامرة‪ ،‬المزدحمة‬
        ‫أخي ًرا‪ ..‬أخي ًرا‪ ،‬انقض طير الكلام‪ ،‬جار ًحا‪ ،‬نه ًما‪.‬‬   ‫بالتواريخ‪ ،‬وبالفقد والتناحر‪ ،‬وبضغائن صغيرة‪ ،‬تحمي‬
  ‫الجمع يتكلم في آن واحد‪ ،‬ولا أحد يسمع‪ .‬ينعقد الكلام‬             ‫كنار في هشيم‪ ،‬سرعان ما تنطفئ بالتصالح‪ ،‬وصدور‬
 ‫في سماء الناس‪ ،‬و ُي َد ِّوم بأصوات مختلطة‪ ،‬تهمي الأفواه‬        ‫باتت منذ زمن على نية ثأر لأرض لها أو عرض سليب‪،‬‬
   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86