Page 80 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 80
العـدد 33 78
سبتمبر ٢٠٢1
وهممت بالخروج .سألتني أمي عن (مجيدة) ولماذا وهذا ما حدث فع ًل!
فقد جئت مرة إلى سوق السمك صبا ًحا ،فرأيت
لم تعد معي .فقلت لها :إنها في السوق .فقالت أمي: ضحكة (مجيدة) ممدودة مثل طريق المدينة الطويل
يا حيف عليك ،أتتركها في السوق وحيدة .ورأيتها الطويل .وهي تحاور أحد الصيادين الشباب،
حاولت التعرف إليه ،لكني ما استطعت ،رأيتها
تلبس حذاءها وته ّم بالخروج ،لعلها تقصد سوق تميل نحوه ،وتلمس يديه وهي تح ّدثه ،وقد ضبطت
السمك! نفسي ،لكن حين رأيتها تم ّد أصابعها نحو صدره
المعشب طار عقلي تما ًما .لأني ظننت بأن (مجيدة)
وما إن خرجت! ،حتى خرجت وراءها أي ًضا! طارت أو تستعد للطيران! فاقتحمتها فجأة .رميت
لم أذهب إلى سوق السمك! وإنما ذهبت إلى الميناء! سلة السمك قربها بكل ما أمتلك من عنف وقسوة،
فطار السمك شظايا ،وصرخت بها ،فجفلت مثل
وهناك ،وعلى متن أول باخرة مقلعة ،ركبت، طير ،واضطرب الصياد الذي كان يواقفها وارتبك!
أخذ منها نقوده ،ومضى مثل ف ّص ملح وذاب بين
ومضيت ،قلت للقيّم عليها :أنا عامل مستودعات، الخلق! فبكت (مجيدة) ،وصرخت :والله لا أعرفه!
عتّال ،فأشار برأسه أن أذهب إلى المستودعات! كن ُت ط ّي هيجاني وانفعالي ،وقد حاول ْت أن تخفف
من ثورتي لكنها ما استطاعت ،ولا أدري ماذا
فذهبت ،وأنا لا أدري ماذا حدث ورائي! قالت حتى انهلت عليها بالضرب والركل والسباب
واللعنات أمام الناس ،وفي مشهد وحشي تما ًما،
الآن، رأيت الباعة والناس ،يبعدونني عنها ،ويأخذونها
من بين يدي مثل ثوب مبلول ،كانت ميتة أو تكاد،
وبعد غياب عشرين سنة وأزيد!
ولكم آذاني أن أراها وهي تتلوى بين أيديهم
أعود ،ومعي مال كثير ،وهدايا كثيرة لأمي، والدم يصبغ وجهها وصدرها ويديها! وبحثت عن
الصياد ،وكنت أظن أنني أعرفه ،أو أنني رأيته من
ولـ(مجيدة) ،ولأمها (الخالدية)..
كن ُت أمني نفسي بمصالحة طنّانة مع (مجيدة)، قبل ،لكنني ،وبسبب غضبي ،ما عدت أعرف من
ومع أمها (الخالدية) ،ولا ب ّد أنهما ،تنتظران عودتي، هو ،وركضت في جميع الأنحاء ،لكنني لم أجده! بدا
ولا ب ّد من أن أمي أخبرتهما بأنني ،مثل أبي ،إن
بحثي عنه كمن يبحث عن إبرة في كومة قش!
عصف بي الغضب ،سأغيب طوي ًل. ولم أد ِر أن ذلك النهار الموجع ،سيكون آخر نهار
أب ًدا ،ما كان الشك يخامرني ولو للحظة واحدة ..من أرى فيه (مجيدة)! فقد تركت سمكي ،وسلالي،
أنهن جمي ًعا ينتظرنني ،ينتظرنني على شوق! ورانات الخشب الممتلئة بالسمك أي ًضا ،وخرجت
من السوق .ذهبت إلى البيت ،ولم أذهب إلى المشفى
لكنني حين وصل ُت لم أجد أح ًدا! أمي ماتت أو ًل، لأرى (مجيدة)! وحين دخلت ،لم أسلم على أمي،
ثم لحقت بها (الخالدية) أم (مجيدة) قه ًرا عليها، لكأنني لم أرها ،وإلا لماذا قالت لي :ما بك يا ولد.
الدنيا صباح ،والسلام لله! ولم أرد عليها بكلمة
و(مجيدة) تزوجت! ممن ،لا أدري! فذهبت إلى
المقبرة لأسلّم على أمي! وعند قبرها جثوت على واحدة ،فقد أعماني غضبي ،وش ّل عقلي.
دخلت إلى الحمام .نظفت نفسي ،ولبست ثيابي،
ركبت َّي وبكيت ،ورجوتها أن تسامحني ،وقبّلت
حواف القبر! ثم نهضت إلى قبر (الخالدية) وكان
مجاو ًرا لقبر أمي ،وجثوت أمامه على ركبت َّي أي ًضا
وبكيت ،ورجوتها أن تسامحني ،ثم قم ُت واستدر ُت،
وليس في بالي سوى رغبتي العارمة ،أن أبحث عن
(مجيدة) لأبكي بين يديها ،وأعتذر منها ،ولأقول لها
كلمة واحدة فقط :سامحيني!